أساليب سرديّة مؤقلمة

د. نادية هناوي
الكاريكاتورية أسلوب من أساليب كتابة المقامة العربية، انتقل الى آداب الأمم المجاورة، وعرفته القصص الاسبانية والايطالية، ولاقى بعض التطور بدءا من حكايات كانتربري لتشوسر ومرورا بدون كيخوته ووصولا إلى روايات رحلات كليفر وترسترام شاندي وتوم جونز. فأما تشوسر فوظف الكاريكاتورية باستعمال المحاكاة الساخرة وكتابة القصة الهزلية وفيها يستهزئ السارد العليم من البطل ويضعه في مواقف محرجة. وجعل ثرفانتس(1547ـ1616) بطله (دون كيخوته) شخصية مضحكة كاريكاتورية. وفسّر عبد الرحمن بدوي الأمر بأنه(يأس ثربانتس من الإنسان والدنيا مما جعله يجد في السخرية والتهكم خير وسيلة بها يستعين على احتمال الحياة)
وهذا محتمل لكنه ليس كافيا لأن يبرر هذه الطريقة المحترفة في السخرية والتهكم من كتب الفروسية أولا لأن ثرفانتس نفسه كان رافضا الكذب والتهويل في القصص، وثانيا وهو الأهم أن اوروبا ما عرفت أدب الفروسية أو نخوة الفارس الحماسية إلا بعد وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب بدليل النموذج العسكري الجديد الذي لم يكن معهودا في أبطال الوقائع الرومانية أو الاغريقية وذلك الغرام الملتهب الذي لم يسبق له نظير في غزل الغربيين من أهل الجنوب أو الشمال وذلك التقديس للمعشوقة على نمط العذريين، غير أن استيعاب ثرفانتس لتقليد المحاكاة الساخرة جعله يعرف كيف يجعل منه مقوما مهما من مقومات السرد، متخذا منه وسيلة ناجعة في الانتقاد والتهكم؛ فرسم هذه الصورة الكاريكاتورية لفارس مضحك يتلبس دورا ليس مؤهلا له، متوهما انه يرى واقعا حقيقيا.
وأول ملامح هذه الكاريكاتورية هزلية دون كيخوته وهو في قمة الجد، ولم يقصر ثرفانتس المحاكاة الساخرة على عمله الأثير (دون كيخوته) بل استعملها في قصص شعبية أخرى كتبها عام 1615 ومسرحيات هزلية مكتوبة نثرا ثم طور ثرفانتس في كتاب(الغجرية) تقليد المحاكاة الساخرة في كتابة السرد فجعل حكائيته أكثر واقعية. وتدور أحداث هذا الكتاب حول فتاة جميلة تدعى بريثيوثا ربتها عجوز لتكون حفيدتها وعلمتها خصال الغجر. وقد يقتحم السارد العليم الأحداث كي يعلق بتهكم وأحيانا بسخرية. وبالطبع الصلة وثيقة بين الإغراب في الخيال وتوظيف السخرية.
وطور الفرنسي رابليه(ت 1553م) الكاريكاتورية بالمحاكاة الساخرة، فنشر بضع قصص هزلية في(غارغانتويا) و(بانتاغرويل) ارتفع فيها بالحكاية الهزلية من كونها شكلا يندرج في القصة إلى أن تكون هي القصة الأوروبية الحديثة. وهو ما جعله رائد هذه القصة التي انتقل بها من العصر الوسيط إلى عصر النهضة، وصار اسمه يوضع مع دانتي وبوكاشيو وثرفانتس وشكسبير.
ويضاهي بطل رابليه (تريبولي) بطل الجاحظ(أحمد بن عبد الوهاب) ويسوق قصصه في شكل رسائل يبعث بها إلى الكاردينال وفيها يرسم بورتريهات كوميدية. أما الموضوعات التي تتناولها قصص رابليه فهي كموضوعات الجاحظ يستلها من ثقافة القاع بكل ما فيه من حمقى ومهرجين، يصورهم على نحو كاريكاتوري. ودلل رابليه على وعي كبير بالمحاكاة الساخرة التي هي في السرد غيرها في المسرح فقال عن الحمقى:(لم يكونوا قطعا ممثلين يلعبون دورهم فوق الخشبة. .كانوا يظلون مهرجين وحمقى وبصفتهم تلك كانوا يجسدون شكلا خاصا للحياة محلية ومثالية في الآن معا لقد كانوا يقعون عند تخوم الحياة والفن) وبسبب ما في قصص رابليه من هزل ومجون واحتيال وبذاءات وأوصاف خليعة وسلوكيات مضحكة، غدت صوره موسومة بنوع من الطابع غير الرسمي الذي لا يمكن قهره على حد وصف ميخائيل باختين.
ولقد تأثر غوغول بما قدمه رابليه من براعة في كتابة القصة الهزلية، فكتب قصصا كوميدية، فيها يؤدي الضحك دورا يقترب من التأمل الفكري لا بوصفه فائضا بلا قيمة، او بوصف الكوميديا للتسلية الوقتية المجردة من أية غاية، بل بوصفها تتقبل الحياة الاجتماعية كوسيط طبيعي للضحك الذي يتوسط الفن والحياة.
ومع تقدم الحقب طور الكتّاب الفرنسيون المحاكاة الساخرة فغدت موجهة أكثر بواقعية، وأهمهم فولتير الذي ادخلها في الحوار، فصنع مفارقات فنية كما في روايته(كانديد). أما فيكتور هيجو فبدا أكثر ميلا من غيره من كتاب عصره إلى المحاكاة الساخرة؛ أولا لأنه شاعر غنائي في المقام الأول وله ديوان الشرقيات 1829 كما أن مسرحياته اتسمت بالطابع الغنائي. وله رواية عنوانها (الرجل الذي يضحك) 1869 اما رواية(البؤساء) فأنجزها عام 1862 وتبدأ أحداثها بالعام 1815 وفيها يسخر السارد العليم من الاسقف مونسيينور بيبتفينو موظفا المفارقة داخل الحوار متبعا طريقة فولتير. ويتدخل السارد العليم منتقدا التضارب في تصرفات الأسقف ساخرا بطريقة تهكمية (كان يزور الفقراء حين تكون جيوبه ملأى بالمال. اما حين تفرغ فكان يزور الأغنياء) ويسخر أيضا من العمدة الكونت عضو مجلس الشيوخ الذي يتفلسف بما لا يعرف متهكما منه تحت عنوان “فلسفة ما بعد الغداء” (كان على قدر من العلم كاف لان يجعله يحسب نفسه تلميذا من تلاميذ ابيقور في حين انه لم يكن في ما يبدو أكثر من ثمرة من ثمرات بيغو لوبران كان يضحك في عفوية واستمتاع من أشياء خطيرة وأزلية ومن الكلام الباطل الذي ينطق به الأسقف الطيب)
ولتقانة الوصف دور مهم في صنع المفارقات على الطريقة الجاحظية ولاسيما حين تظهر شخصية جان فالجان لتشارك الأسقف البطولة. ويساهم الوصف في الكشف عن مزيد من تناقضات الأسقف. وتتولد عن ذلك مفارقات ساخرة، فحين أطلق سراح جان فالجان لم يكن معه سوى كيس وحبل ووجه فظيع، فراح يبحث عن ملاذ وأوصلته رجلاه إلى منزل الأسقف الذي قال له حين رآه: لا بد انك تشكو البرد يا سيدي؟ فرد فالجان(إن لفظة سيدي تقال لرجل خارج من سجن الأشغال الشاقة أشبه شيء بكوب ماء يقدم إلى رجل يموت ظمأ في عرض البحر)
واستنادا إلى ما تقدم يغدو من الخطأ تصور أن الأساليب القديمة التي تضمنها قالب المقامة قد هجر أو أنها لم تعد تناسب العصر الحديث لسبب بسيط هو رسوخ التقاليد التي أنتجتها مرويات السرد العربي القديم، ومن غير الممكن تجاهلها أو نكران تأثيراتها. وصحيح أن مفاهيم سردية كالمحاكاة والمفارقة ستكتسب أهمية عند فلاسفة القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر مثل فردريك شليغل واوغست فليهلم بيد أن التنظير المفاهيمي شيء والتطبيق القصصي شيء آخر. ولم يعرف الأديب الأوربي المفارقة لأنه تأثر بتنظيرات هؤلاء الفلاسفة، بل هو حدسه ووعيه اللذان وفرا له مرجعيات تضرب جذورها في التاريخ، وجعلاه يتخذ من تقاليد السرد القديم طريقا فيه وجد ما يلائم عصره ومن ثم يكون طبيعيا أن يطور جماليات كتابة القصة بصنع المفارقات الفنية.
وستؤثر هذه التقاليد في السرد الأمريكي بوصفه امتدادا للسرد الأوروبي، وعلى الرغم من عقلانية وواقعية ارثر ملفل وادجار الن بو وهنري جيمس، فانهم كتبوا القصة الهزلية موظفين المحاكاة الساخرة وصنعوا مفارقات على شاكلة ما صنعه روائيو أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وإذا كان القصاصون الأوروبيون يكتبون من وحي ما يشعرون بأهميته، فإن مواطنيهم من نقاد الأدب ومنظريه كانوا على العكس منهم ينطلقون من وحي ما يرونه بوساطة العقل وليس الشعور، فوجدوا في الواقعية فلسفة وايديولوجيا يمكن توظيفها بانتقائية ونفعية بقصد اجتراح تقاليد جديدة خاصة بعصر التنوير. ومن ثم راحوا يحضون الأدباء والكتاب على انتهاجها في أدبهم، وعدوا ذلك مقياسا لنجاح الروائي ودليلا على عبقريته، متعالين على وقائع التاريخ الادبي، محاولين تناسي حقيقة أن الأدباء الأوروبيين ساروا على تقاليد السرد العربي القديم الناجزة، وفيها وجدوا ما يساعدهم ويلبي تطلعاتهم في تصوير الواقع تصويرا حيويا، يجعل القراء يستجيبون لجمالياته استجابات مختلفة.
