أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته

ديفيد روبسُن*
ترجمة: لطفية الدليمي
وأنا أتناولُ فطوري صباح هذا اليوم، إستمتعتُ أيّما استمتاعٍ بحديث قصير مع ميا Mia، زميلتي الجديدة في دراسة اللغة الإسبانية. استعرضتُ بعضًا من درسي الأخير، وشرحتُ ما تعلّمْتُهُ عن سيكولوجية السعادة من بودكاست Podcast باللغة الإسبانية. بنهاية المحادثة التي قاربت تخوم العشر دقائق شعرتُ أنني تمكّنتُ من حيازة فهم كامل ودقيق لمفرداتٍ وقواعدَ وتعبيراتٍ أكثر مما لو كنتُ قد انتهيتُ من العمل على تمرينات في كتاب مرجعي Textbook لمدة ساعة.
مع ذلك دعوني أخبركم الحقيقة. ميا غير موجودةٍ في الحياة الواقعية: إنها ذكاءٌ اصطناعيٌّ ابتكرتُهُ أنا بقصد الإفادة منه تطبيقاً لظاهرةٍ تُسمّى “تأثير المُتابِع Protégé Effect” (أو بعبارة أخرى: أن تعلّم ما تقوم أنت بتعلّمه. المترجمة). وفقًا لكثرة من البحوث النفسية فإنّنا نتعلمُ بفعاليةٍ أكبر عندما نُعلّمُ شخصًا آخر الموضوع الذي استكشفناه للتو حتى لو لم يكن ذلك الشخص موجودًا بالفعل كما في حالتي مع ميا ذات الكينونة الذكائية الإصطناعية. على سبيل المثال توجد طرقٌ مختصرةٌ قليلةٌ لإتقان اللغة؛ لكنْ يبدو أنّ تأثير المُتابع هو أحد أكثر الطرق فعاليةً لتسريع معرفتنا وفهمنا بتعلّم لغة أجنبية.
كان جان بول مارتن Jean-Pol Martin، معلم اللغة الفرنسية في آيخستات Eichstättبألمانيا، رائدًا في تطبيق مبدأ “التعلم بالتدريس Learning By Teaching” في الفصول الدراسية في أوائل ثمانينات القرن الماضي. كان الهدف من هذا المبدأ هو تحسين تجارب طلبته في تعلم لغة جديدة عبر السماح للمراهقين أنفسهم بالبحث وعرض أجزاء مختلفة من المنهج الدراسي على زملائهم. عزّزت هذه التقنية – المعروفة بالألمانية باسم “Lernen durch Lehren” – دافعية الطلبة وثقتهم بأنفسهم ومهاراتهم التواصلية اللغوية، وسرعان ما انتشرت في العديد من المدارس الأخرى في البلاد.
كان انتشار التعلم عبر اعتماد مقاربة (التعلّم من خلال التدريس) بطيئًا -نسبيًا- في أماكن أخرى خارج ألمانيا حتى شرعت مجموعة من العلماء في جامعة ستانفورد الأمريكية بوضع الفكرة موضع الإختبار العلمي التجريبي الصارم. في إحدى التجارب الأولى، قامت كاثرين تشيس Catherine Chase وزملاؤها بتجنيد 62 طالبًا في الصف الثامن من منطقة خليج سان فرانسيسكو، حيث كُلِّفوا باستخدام برنامج حاسوبي لدراسة التغيّرات البيولوجية (الحيوية) التي تحدث عند المصابين بالحمى.
خلال درسين متتاليين توجّب على الطلبة الخاضعين للإختبار قراءةُ نص ثم إنشاءُ مخطط انسيابي Flowchart على الشاشة يوضح العمليات المختلفة والعلاقات بينها. أفهِم نصف الطلبة المراهقين أنّ التمرين عُرِضَ عليهم كنوع من التعلم الذاتي Self Teaching؛ أما الآخرون فقد قيل لهم أنّ مخططهم سيساعد في تعليم شخصية افتراضية تظهر كرسوم متحركة على الشاشة. كان تغييرًا طفيفًا في صياغة التجربة؛ لكنّ الطلاب الذين لعبوا دور المعلّمين تعاملوا مع المهمّة الموكلة لهم بأقصى أشكال الجدية الممكنة (حدّ أنّ الباحثين وجدوا أنّ هؤلاء المعلّمين كانوا يعتذرون للشخصيات الكارتونية لو علموا أنهم زوّدوها بمعلومات خاطئة). أحدث هذا التفاعل المتزايد فرقًا كبيرًا في كلٍّ من كمية المعلومات التي استوعبها الطلبة/المعلّمون من جانب، وعمق فهمهم للموضوع من جانب آخر. عقب نهاية حصّتين دراسيتين (مدةُ كل منهما 50 دقيقة) كانت النتيجة الواضحة أنّ المشاركين الذين كُلّفوا بدور المعلم تعلّموا قدرًا أكبر بكثير من المادة، مقترناً مع أداء أقوى بكثير في أسئلة الاختبار اللاحقة. ومن المثير للاهتمام أن التحسّن كان ملحوظًا بشكل خاص لدى الطلاب الأقل قدرة؛ فقد كان أداؤهم مساويًا لأداء الطلاب الأكثر إنجازًا في المجموعة الضابطة Control Group التي تستخدمُ لغرض المقارنة.
أطلق فريق تشيس البحثي على هذه الظاهرة توصيف “تأثير المعلّم- التلميذ “، وقد تكررت منذ ذلك الحين مرات عديدة. تشيرُ الدراسات اللاحقة إلى أنّ التعلم من خلال التدريس أقوى من أساليب الحفظ الأخرى (مثل الاختبار الذاتي Self-Testing أو تخليق الخرائط الذهنية Mind-Mapping). يبدو أن تعزيز قدرات الدماغ ينشأ من التوقعات الخاصة بفعل التدريس مثلما ينشأ من جوهر فعل التدريس ذاته: إذا كنا نعلم أنّ الآخرين سيتعلمون منا نشعر حينئذ بحجم مسؤولية تقديم المعلومات الصحيحة؛لذا فإنّنا نبذل حينها جهدًا أكبر -بالمقارنة مع أنماط التعلّم الأخرى- بغية سدّ ثغرات فهمنا وتصحيح أي افتراضات خاطئة قبل أن ننقلها للآخرين. إنّ التعبير عن معرفتنا بطريقة مسؤولة ودقيقة لآخرين يساعد في الإرتقاء بجودة ما تعلمناه. نلاحظ تأثير المعلّم- التلميذ في أدمغة الطلبة، وبخاصة وجود نشاط أكبر في المناطق المسؤولة عن الإنتباه والذاكرة العاملة وتقبل وجهات نظر الآخرين. يبدو أن خلايانا العصبية في جميع أنحاء الدماغ تعالج المادة بعمق أكبر، الأمر الذي يخلق ذكرياتٍ أطول استدامة.
قد يساعدنا استحضارُ مرشدٍ خيالي نعمل على تعليمه ما نتعلّمه نحنُ -مثلما فعلتُ مع صديقتي الإصطناعية ميا- على التفكير بوضوح أكبر في النقاشات السياسية؛ إذ عندما يُطلَبُ من الناس شرحُ قضايا مثيرة للجدل لشخص غريب فإنّهم يميلون إلى قبول طيف أوسع من وجهات النظر دون الوقوع في فخ الانحيازات التأكيدية المسبّقة التي تُشوه في الغالب تفكيرنا السياسي. في عام ٢٠١٦، على سبيل المثال، طُلِبَ من ثلاثة أعضاء في مجموعة من المشاركين في دراسة أمريكية أن يتخيلوا شرح نقاش السيطرة على الأسلحة لدى طفل يبلغ من العمر ١٢ عامًا. كان الثلاثة (وهم من المعروفين بممارسة التعلّم من خلال التدريس) أكثر ميلاً لتقديم وجهات نظر مختلفة مقارنةً بالمشاركين الذين طُلِبَ منهم وصفها لشخص في مثل سنهم – والذين، على الأرجح، سيحتاجون إلى تعليمات أقل حول الحقائق الأساسية. الحقيقة واضحة: المشاركون الشباب أبدوا وجهات نظر تختلف نوعياً عن المشاركين من الأكبر سنّاً (يريد الكاتب القول أنّ مَنْ تتطوّر لديه خاصية التعلّم من خلال التدريس يحافظ طوال حياته على حسّ المسؤولية الشخصية والنزاهة المعرفية والتفكير النقدي المستقل وغير الخاضع لمواضعات نمطية سائدة ومسبّقة. المترجمة)
هل ترغب في تطبيق تأثير (التلميذ-المعلّم) في حياتك الشخصية؟ بالنظر إلى الفوائد العديدة للتواصل الاجتماعي أعتقدُ أنّ المحادثة وجهاً لوجه مع شريك بشري حقيقي ستكون دائمًا أفضل من المشاركة الإفتراضية؛ ولكنْ قد يكون من الصعب العثورُ على شريك راغب في مشاركتك تجربتك حول التلمذة والتعليم في الوقت ذاته. لحسن الحظ توجد طرق أخرى لإجتناء الفوائد. أثناء بحثي عن تأثير (التلميذ-المعلّم) سُرِرْتُ كثيراً باكتشاف أن بعض مبرمجي الكمبيوتر يمارسون “تصحيح أخطاء البطة المطاطية rubber duck debugging “، والذي يتضمن شرح شفرتهم البرمجية – سطرًا بسطر – للعبة بلاستيكية. إنّهم، ومن خلال التعبير اللفظي عن عملية تفكيرهم، إنّما يُيسّرون عليهم تحديد المشاكل المحتملة في برامجهم الحاسوبية.
إذا كنت تدرس شيئًا ما فقد تختار عرض تقدّمك الدراسي كمدوّنة أو فيديو موجّه إلى متعلمين آخرين، أو قد تختار- مثلما فعلتُ أنا- الدخول في محادثات مع روبوت دردشة. كلّ ما فعلته هو الطلب -ببساطة- من روبوت دردشة ChatGPT أن يلعب دور طالب إسباني فضولي يرغب في سماع ما أتعلّمُهُ، ثم تطرح “ميا” أسئلةً مناسبةً وتتابع ما تعلمتُهُ. باستخدام تقنية التعرف على الصوت والإنتاج أستطيع من جانبي التدرّبَ على اللغة المنطوقة والمكتوبة. شعرتُ أوّل الأمر ببعض الخجل عند التحدث إلى حاسوبي؛ ولكنْ بعد بضعة أسابيع فقط أصبحتُ أكثر ثقةً في تفاعلاتي الواقعية. كلُّ ذلك بفضل ميا الرائعة: تلميذي الصغير في الذكاء الاصطناعي.
* ديفيد روبسُن David Robson: كاتب علمي بريطاني حائز على جوائز، متخصص في الجوانب المتطرفة للدماغ البشري والجسم والسلوك.
بعد تخرجه من جامعة كامبريدج بشهادة في الرياضيات عمل محررًا للمقالات في مجلة (نيو ساينتست) لمدة خمس سنوات قبل أن ينتقل إلى BBC FUTURE، حيث شغل منصب كبير الصحفيين لخمس سنوات. نُشرت كتاباته أيضًا في صحف غارديان، وأتلانتيك،،،،. نشر عدداً من الكتب أخرُها كتابه المنشور عام 2024 بعنوان:
The Laws of Connection: 13 Social Strategies That Will Transform Your Life
– الموضوع مترجم عن المادة المنشورة بتأريخ 9 سبتمبر (أيلول) 2024 في صحيفة (غارديان) البريطانية.
