المبدعون حين يتملكهم العشق

شوقي بزيغ
حين شرعت في الكتابة عن الحياة الزوجية للكتّاب والفنانين, والتي تمخضت في وقت سابق عن كتاب “زواج المبدعين \ ثراء المتخيَّل وفقر الواقع” , لم أطرق أبواب هذا الموضوع الشائك بدافع بحثي أكاديمي, وأنا لست متخصصاً في علوم الاجتماع والنفس, بل كان دافعي الى ذلك اعتقاد شخصي مفاده أن المؤسسة الزوجية التقليدية, التي عثر البشر من خلالها على ما يكفل لهم بناء الأسرة وحفظ النوع وتأمين دورة الخلق, ليست الحاضنة الأمثل لمواهب أحفاد بروميثيوس, سارق النار الإلهية, ولا لأمزجتهم العصية على التدجين. وتكفي العودة المتفحصة الى السيَر الشخصية لهؤلاء, لكي نصل الى الاستنتاج بأن الطرف الوحيد الذي يمكن له أن يشاطر المبدعين نومهم ويقظتهم وأسرّتهم على نحو دائم, هو هاجس الخلق والابتكار, وهو اللغة التي ينذرون لها حيواتهم القصيرة, رغم أنها تشل قدرتهم على القيام بأي عمل جوهري آخر, ولا تقبل ضرّة أو شريكاً, سوى الحرية.
ولما كانت النماذج المتناولة في الكتاب السابق, قد اقتصرت على المبدعين الذين انضووا تحت عباءة المؤسسة الزوجية, فقد ارتأيت أن أتناول في هذا الكتاب كوكبة أخرى من المشتغلين بالكتابة والفن, الذين تعذر عليهم الزواج ممن يحبون, أو الذين عثروا على ضالتهم خارج الأقفاص الضيقة للمؤسسات, ورأوا في الحب والوله العاطفي, لا في الصكوك والمواثيق المكتوبة, ما يكفل لعلاقتهم بالآخر المعشوق المشروعية الأخلاقية التي تحتاجها. وأستطيع القول في هذا السياق بأن الكتاب الجديد ” المبدعون عشاقاً ” هو مكمل الكتاب السابق وامتداده الطبيعي, بقدر ما تمكن قراءته ككتاب مستقل. ولا بد من التنويه في الوقت ذاته بأن التجارب المتضمنة في هذا الكتاب, ليست سوى عينات قليلة من تجارب المبدعين مع العشق, والتي حال بيني وبين مقاربتها جميعاً, عدم توفر المصادر المعرفية اللازمة من جهة, وتعذر جمعها في كتاب واحد من جهة أخرى, وهو الأمر نفسه الذي حدث في الكتاب السابق.
ولا بد من التنويه كذلك, بأن هذا الكتاب لا يهدف الى مقاربة التجارب العاطفية التي خاضها الكتاب والفنانون, من زاويتي الخطأ أو الصواب, ولا محاكمة المبدعين العشاق على أساس أخلاقي, ولا التنديد بهذا الكاتب وتأييد ذاك, ليس فقط لأن لكل علاقة ظروفها وخلفياتها ومسرحها الخاص, بل لأن الأمور المتصلة بالحب وشؤون القلب, هي في الأصل نسبية وحمالة أوجه, فكيف إذا كان أحد طرفيها مصاباً بلوثة الكتابة والفن, المرتبطة في الأعم الأغلب باللاسوية والانحراف السلوكي والانفصال عن الواقع.
وإذا كان هذا الكتاب غير معني في الوقت ذاته, بتقديم أجوبة يقينية وحاسمة حول أمور الحب وإشكالياته, فإنه معني بطرح تساؤلات مختلفة حول العلاقة بين العشق والابداع, وما إذا كان المبدعون على نحو عام أكثر براعة من سواهم في الشؤون المتصلة بالقلب والشغف العاطفي, وعما إذا كان الأمر في حال صحته, عائداً الى تكوينهم العصبي الجامح وشغفهم العارم بالحياة, أم الى سطوة اللغة وفتنتها وقدرتها الفائقةعلى الإغواء. إضافة الى أسئلة أخرى من مثل: هل الحب هو الفردوس الرمزي للكتّاب والمبدعين, أم هو جحيمٌ آخر مغاير لجحيم الزواج؟ ولماذا يشكل الحب الحافز الأكثر استدعاءً لشياطين الكتابة ونيران المكابدات؟ وهل يضمر الحب باللقاء ويضطرم بالغياب؟
على أن النقطة الأبرز التي ينبغي الالتفات إليها في هذا الصدد, هي أن الأبعاد المفهومية المجردة لموضوع الحب والعشق, لا تمتلك, على أهميتها, اللحم والدم الضروريين للحياة الحقيقية, ولا يتوفر لها النبض الكافي لصناعة عاشقيْن. وبما أننا لا نعرف شخصاً بعينه اسمه الحب, بل بشراً بلا عدد, قُدِّر لهم عبر العصور, أن يخوضوا هذه التجربة بما فيها من مسرات ومكابدات, فقد آثرت في هذا العمل تعقب هذه العاطفة الانسانية المتوقدة, من خلال تمثلاتها المختلفة على أرض العلاقة المحسوسة بين المحبين, لا في سماوات الأفكار والتصورات, والتوليدات الذهنية الصرفة.
هل العشق منفى المحبين أم ملاذهم الآمن؟
رغم أن العلاقات العاطفية بين البشر لا تخضع لقواعد ومعايير ثابتة ونهائية, فإن التجارب الواردة في هذا الكتاب, لا تقود الى الاستنتاج بأن أصحاب هذه التجارب, قد عثروا في العشق على مرفأهم الأخير ومسكنهم الآمن ومرساتهم الخلاصية. وقد ذهب البعض الى اعتبار الحب شبيهاً بالسم المموه بالحلوى, الذي تعدّه الحياة للطرفين الواقعين في حبائله, أو الى تشبيهه ابلحديقة المترعة بالملذات, التي سرعان ما تنقلب الى مفازة شاسعة من الحيرة والتشرد الجسدي والروحي.
والعشق في بداياته الأولى غيره في منتصفه ونهاياته. فهو إذ يُظهر للمصابين به جانبه الوردي, ويحول الحياة الى كرنفال عارم من المتع والمباهج والأحلام الباعثة على الانتشاء, سرعان ما يتحول عند البعض, وبفعل تصادم النرجسيات والغيرة المفرطة وشهوة الامتلاك, الى ورطة حقيقية يصعب الخروج منها دون أكلاف باهظة, تلامس في بعض الحالات حدود التصدع المرضي والجنون والموت.
وفي الأساطير اليونانية القديمة, حيث تقع الآلهة في حب البشر وبالعكس, يلبس الشغف الشهواني لبوس التحول الدائم, ويضطر الإله العاشق للانتقال من هيئة الى هيئة, ليقضي وطره من المرأة المعشوقة, فيضطر زيوس للتحول الى ثور ليظفر بأوروبا, والى طائر بجع ليتزوج ليديا, ويتحول بوسايدون إله البحر, الى حصان, ليستحوذ على ديمترا. وليس صدفة أن تجد فكرة الحب – الرحيل تجسدها النموذجي عند العشاق العرب الأقدمين, وبخاصة العذريين وسكان البوادي, حيث المكان الصحراوي الذي لا تنفك الرياح العاتية عن العبث بتضاريسه, ليس إلا نسخة مطابقة عن أولئك المثلومين بنصل الحب, والهائمين على وجوههم في مفازات الضياع.
ولعل هذا الترحل الدنيوي عن مكان إقامة المعشوق أو عن جسده المحسوس, هو الذي دفع قيس بن ذريح, بعد أن غلبه الندم على تطليق لبنى, الى الضرب الأعمى في القفار الموحشة, على أمل أن تعيده الأماكن الى الجنة الأصلية التي تقاسمها مع حبيبته, قبل أن تضيع من يديه. وهو ما يعكسه قوله:
وأعمد للأرض التي لا أريدها لتُرجعني يوماً إليكِ الرواجعُ1
وقد يكون جميل بن معمر أحد أكثر الشعراء العذريين تعبيراً عن فكرة الربط بين الحب والترحل, سواء تعلق الأمر بمسرح العلاقة المكاني, أو بغربة العشاق وتشردهم في براري الزمن. فجميل على المستوى المكاني رحالة سادر في التيه, كما يظهر من مناداته لحبيبته:
فإن وُجدتْ نعلٌ بأرضٍ مُضلةٍ من الأرض يوماً, فاعلمي أنها نعلي
وهو منذ عشق بثينة وعشقته, لم يعودا على دراية بالمسار الطبيعي لصيرورة الزمن وانتظام الأيام, بل باتا وفق تعبيره:
يعيشان في الدنيا غريبين أينما أقاما, وفي الأعوام يلتقيانِ2
المبدعون والعشق: الأسباب المتباينة للنجاح والإخفاق
في اندفاعهم المحموم باتجاه الحب, يدرك المبدعون تمام الادراك أنهم يمتلكون الأداة الأكثر قدرة على إغواء الآخر المعشوق والاستحواذ على قلبه, وأعني بها إغواء اللغة, وسحر الكلمات الذي تصعب مقاومته. صحيح أنهم يفتقرون الى السلطة المباشرة المتمثلة بالنفوذ السياسي وسطوتي البطش والمال, ولكن الصحيح أيضاً أنهم يتربعون على عروش أبدية الصنع, لا يقوى الزمن على اقتلاعها. ولأنهم كذلك فهم يفلحون دون أن يبذلوا جهوداً تُذكر, في الاستحواذ على قلوب الكثير من المعجبات الطامحات الى الاقامة في ظل قاماتهم الوارفة, والعكس صحيح بالنسبة للنساء المبدعات.
ولأن الكتاب والفنانين يحتاجون الى كامل العناصر والمواد التي تتشكل منها الحياة, ولا يستطيعون التنازل لأحد عن حصتهم الكاملة من الحرية, فهم يجدون ضالتهم المنشودة في الحب والعشق الخاليين من كل قيد, واللذين يرفدان مواهبهم بجذوة التوقد والاشتعال, فضلاً عن شعورهم بالبهجة والظفر كلما أوتيت مغامراتهم العاطفية ” ثمارها ” الوفيرة. ولأنهم معفيون الى حد بعيد من قيود الزواج وتبعاته المرهقة, فإن العلاقة بالآخر المعشوق تظل في دائرة الدهشة والاكتشاف والابتكار المتواصل.
وخلافاً لما هو الحال مع الزواج, ليس ثمة في الحب سبيل للنوم على حرير الطمأنينة, ما دامت للآخر إمكانية الانسحاب على رؤوس أصابعه والاختفاء التام, متى ارتأى ذلك أو رأى فيه ضرورة ملحة. وهذا الوضع على ما يكتنفه من هواجس مؤرقة, هو الحالة النموذجية التي ينشدها المبدعون, الذين لا تقتات لغتهم من الاستكانة الوادعة والدوران السقيم حول النفس, بل من القلق العاصف وحمّى الوساوس السوداء. ولهذه الأسباب مجتمعة, فإن هؤلاء يندفعون باتجاه الحب بكل ما يملكونه من شغف بالحياة وثملٍ بجمالها المتنوع. وليس غريباً بالتالي أن يروا فيه ضالتهم المثلى, وهم الذين يشتغلون على إيقاع زمني وعصبي بالغ الكثافة والتوتر, تماماً كما هو حالهم مع اللغة وغيرها من أنماط التعبير, حيث لا مجال لأواسط الأشياء وأنصافها, وحيث لا خيار أمامهم سوى الذهاب الى التخوم الأخيرة للمجازفة الانسانية.
إلا أن ما تقدم لا يلغي الحقائق الأخرى المتعلقة بنزق المبدعين وتكوينهم العصابي ونزوعهم الى الاستحواذ. فقد يحدث أن يحاكي الحب, وبخاصة حين يطول به الزمن, مزالق الزواج نفسها, فيقع فريسة التأسن والرتابة وتثاؤب الزمن, والدوران المضجر حول الطقوس نفسها والبكْم إياه, الأمر الذي يدفع الكاتب الى الفرار والبحث عن مصدر آخر للاشتعال. وقد يحدث أن ينقلب مزاج الكاتب أو الفنان, بعد أن يعمد الطرف الآخر الى نكث العهود التي كان قد قطعها على نفسه, بإبقاء العلاقة في إطارها الحر وغير المشروط, حتى إذا مر وقت من الزمن باتت المطالبة بالزواج شغله الشاغل وديدنه اليومي. وقد يحدث أيضاً أن يتم هذا الانقلاب بفعل الغيرة المتفاقمة التي تتخذ في حالة استفحالها أشكالاً مرَضية بالغة الحدة والعنف. وقد لا يكون أمر نجاح العلاقة أو فسادها متصلاً البتة بأداء الطرف الآخر, بل بمزاج المبدع الشخصي الذي يشعر بأن العلاقة قد استنفدت كل ما كانت تختزنه من ألق الدهشة وكهرباء الشغف, وبأن نداءات أخرى قد بدأت تراود سمعه من الجهة الغامضة وغير المأهولة للأنوثة الأبدية.
وإذا كانت العلاقات العاطفية للمبدعين هي من التنوع والثراء والتباين, بما يمنع إحداها من أن تكون نسخة عن الأخرى, فليس ثمة بالمقابل معايير ثابتة للحكم على هذا المبدع بالنجاح, وعلى ذاك بالفشل. إذ لربما بدا أحدهم مثالياً في صدقه واندفاعه أول الأمر, ثم ما لبث الزيت أن نضب والنيران أن خمدت في نهايته. وفي ضوء أي معيار يمكن لنا, على سبيل المثال, أن نحكم بالنجاح أو الفشل على تجربة فيلسوف نافذ البصيرة كسورين كيركغارد, الذي قرر بشكل مباغت الانفصال عن خطيبته ريجينه أولسن, في حين أنها ظلت تلهمه أفضل أعماله, وأن حبه لها ظل يكبر عاماً بعد آخر, كما لو أنه رأى في غيابها الجسدي الشرط الضروري لإعادة تأليفها من عندياته, أو لتحويلها الى أسطورة. ولعل من أغرب المفارقات أن يكون الفيلسوف الوجودي الشهير قد قرر تسليم حبيبته الأثيرة الى أحضان فريدريك شليغل, أحد ألد خصومه, وهو نفسه الذي قال عنها ” إن نشاطي ككاتب يعود الى المرآة التي أحببتها وأثرت في حياتي أيما تأثير. إنه يشبه الجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب, فهو مركز الوجود, وهو ما يمنح الطبيعة الانسانية تناغماً لا يُمحى3 “.
ومع أننا لا نعثر على قواسم مشتركة كثيرة بين بودلير, الذي بدا عشقه لجان دوفال محقوناً بكل أنواع السموم والحمى الشهوانية والنزق الجحيمي, وبين ودانتي ألغييري, الذي كان يكفيه أن يلتقي بياتريس بونيناري مرة واحدة, لكي يهيم بها عشقاً, بعد أن رأى فيها تجسيداً حياً لمثاله الأنثوي الأعلى, إلا أن الأثر الابداعي لكلتا العلاقتين هو ما يضعهما في خانة واحدة, حيث استطاعت بياتريس أن تلهم دانتي ” الكوميديا الإلهية ” التي شكلت الحد الفاصل بين عصور الانحطاط الغربي وعصر النهضة, فيما تكفلت دوفال بالدور نفسه, حين ألهمت بودلير معظم قصائد ” أزهار الشر “, التي شكلت الحدود المماثلة بين عصر النهضة الغربية, وأزمنة الحداثة اللاحقة.
كما أن قراءةً متفحصة لتجارب المبدعين العاطفية خارج إطار الزواج, لا بد أن تقودنا الى الاستنتاج بأن أسباباً ومقدمات كثيرة تقود هذه التجارب الى مأزقها الحتمي, وأن فترات السعادة والانتشاء التي يولدها إغواء الآخر والظفر به, ما تلبث أن تخلي مكانها للنكوص والاحباط والفشل, بعد أن تختفي الأصباغ والأقنعة, وتُبطل التباينات العميقة مفعول السحر المجرد, ويميط الواقع اللثام عن وجهه الحقيقي. وقد ينجم المأزق عن عجز الطرف المعشوق, عن مجاراة العاشق المتطرف في تطلبه, والذي لا يرضيه أن يكون نصيبه من الحب, أقل من نصيبه من اللغة.
