ثقافة وفن

جسر بين ثلاثة أنهار… ترجمة إنجليزية وبصرية لأحلام نجيب محفوظ

بصدق نادر، يبدأ الروائي الليبي البريطاني هشام مطر ترجمته لكتاب «الأحلام الأخيرة» لنجيب محفوظ باعتراف.

في لقائهما الوحيد في التسعينات، سأل مطر، محفوظ، كيف يرى الكُتّاب الذين نشأوا في لغة غير لغتهم الأم وأصبحوا يكتبون بها.

كان السؤال معبراً عن انشغالات كاتب شاب وُلِد في أميركا وعاش فترة في القاهرة قبل أن يغادرها إلى بريطانيا ليلتحق بمدرسة داخلية باسم وهوية مزيفين خوفاً من ملاحقة نظام معمر القذافي الذي أخفى أباه المعارض. وجاء الرد من محفوظ موجزاً ذكياً كسرده: «أنت تنتمي إلى اللغة التي تكتب بها».

«وجدت نفسي… الأحلام الأخيرة»

لكن مطر يعترف بأنه – في استدعاءاته اللاحقة لهذا الحوار – ضبط نفسه متلبساً مراراً بإضافة إسهاب لم يقله محفوظ، خلاصته أن «كل لغة نهر بذاته، بأرضه وبيئته، بضفافه وتياراته، منبعه ومصباته حيث ينضب. لذلك فعلى كل كاتب أن يسبح في نهر اللغة التي يكتب بها».

بهذا المعنى، يحاول كتاب «وجدت نفسي… الأحلام الأخيرة»، الصادر عن دار «بنغوين»، الأسبوع الماضي، أن يكون جسراً بين ثلاثة أنهار: اللغة العربية التي كتب بها محفوظ نصه الأصلي، واللغة الإنجليزية التي ترجم إليها مطر، ولغة عدسة زوجته المصورة الأميركية ديانا مطر التي تخللت صورها للقاهرة صفحات الكتاب.

باعتمادها الأبيض والأسود حاولت مطر جسر الهوة الزمنية بين قاهرتها وقاهرة محفوظ (تصوير: ديانا مطر)

مهمة ليست سهلة. فترجمات محفوظ تحديداً ثار حول بعضها ما ثار من جدل، إما لانعدام الدقة أو لإغفال السياق أو للتدخل في النص أحياناً.

شيء يسير من هذا أصاب محاولة مطر. حين ترجم مثلاً الحلم 211 الذي يجد فيه محفوظ نفسه أمام زعيم ثورة 1919 سعد زغلول وإلى جانبه «أم المصريين»، وهو لقب زوجته السيدة صفية زغلول. يلتبس اللقب على مطر فيعتبره إحالة رمزية إلى مصر، ويترجمه Mother Egypt أو «مصر الأم».

تكمل الصور أجواء الأحلام وإن لم تحاول ترجمة أي منها مباشرة (تصوير: ديانا مطر)

لكن بخلاف ذلك، تنساب ترجمة مطر الحاصل على جائزة «بوليتزر» بسلاسة تلائم إنجليزيته الرفيعة، وتشبه بساطة قصة مشروعه هذا الذي بدأ بترجمة بضعة أحلام منه لزوجته وهو يحتسي القهوة على طاولة المطبخ ذات صباح، فوجد نفسه وقد ترجم العشرات منها وقرر أن تكون أولى ترجماته المنشورة.

ولعل روح التكثيف والاقتصاد في اللغة التي تطبع سرد محفوظ لأحلامه الأخيرة سهّلت مهمته.

وبين حلم وآخر، تظهر صور ديانا مطر للقاهرة – مدينة محفوظ وملهمته – متدثرة بالظلال والغبار والخيالات وشبحية التفاصيل أحياناً لتكمل أجواء الأحلام، وإن لم تحاول تقديم ترجمة مباشرة لأي منها.

التقطت مطر معظم صور الكتاب بين نهاية التسعينات وبداية الألفية (تصوير: ديانا مطر)

وهي هنا تجتمع مع محفوظ في حبها للقاهرة التي باتت «ملهمتها» منذ رافقت زوجها إلى تلك الجلسة الصيفية مع صاحب «نوبل» العربية الوحيدة للأدب. وباعتمادها على الأبيض والأسود والاحتماء بالتجريد حيث أمكن، بدت ديانا مطر وكأنها تحاول جسر الهوة الزمنية بين قاهرتها وقاهرة محفوظ.

في نهاية مقدمته، يقول هشام مطر إنه يروق له تخيل محفوظ وهو يقلب صفحات الترجمة ويعقب عليها باقتضابه المعروف: «طبعاً». لكن ربما الأقرب للتصور أنه سيكرر عليه حكمه الأول: «أنت تنتمي إلى اللغة التي تكتب بها».

ربما علينا أن نقبل بأن الترجمة – عموماً لا في ما يخص هذا الكتاب فقط – هي جسر لا مرآة. وحسبها ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى