ثقافة وفن

رشدي العامل..بعيداً عن الشعر

جمال العتّابي
صورة داخلية
ثمة منعطفات ومحطات مهمة في حياة رشدي العامل لم تعد خفية أو مجهولة لدى الناقد الأدبي والمتابع لآثاره الإبداعية، أو سيرته الشخصية. إلا انها جميعا تسحق التوقف والدراسة، منها اختياره الواعي للعمل في الصحافة، بناءً على انخراطه في العمل السياسي منذ سنوات شبابه الأولى، وجد في الصحافة الفضاء الأوسع للكشف عن موهبته المبكرة في الكتابة السياسية والتعبير عن أفكاره التي تبناها بدراية العارف، فتوثقت صلته بقرائه ومتابعيه على صفحات الجرائد الوطنية (الأهالي، الراي العام) ومن ثم مجلة 14 تموز، والأديب العراقي، وصحف اليسار في مراحل لاحقة.
اكتست تجربة رشدي الصحفية بوضوح الرؤية وصدق المضمون وصلابة الموقف في خضم المعترك السياسي والثقافي، فأضحى علامة مميزة في حركة الشعر العراقي الحديث، ورائداً مبدعاً في كتابة القصيدة الغنائية الجديدة، ومناضلاً باسلاً في مواجهة التسلط والقمع وممارسات الديكتاتورية بأساليبها كافة.
ذاك هو عالم رشدي العامل الفسيح الذي أطل من خلاله كشاعر وكاتب سياسي لامع، يكتب العمود اليومي محللاً للأحداث السياسية اليومية، ومتابعاً ومراقباً حاذقاً لها، بنظره الثاقب الممتلئ بحس إنساني، تعززه لغة أدبية رشيقة في التعبير الصادق عن الموضوع، والقدرة على الكشف والادهاش.
العامل يكتب بلغة العارف بسر الكلمات، المحترف، المرتكز على أرضية فكرية راسخة، منحته القدرة على فهم حركة التاريخ بنظرة جدلية كانت تستوعب معطيات العصر ولغته آنذاك، كانت تلك عدّته وأدواته التي مكّنته من الوقوف في المقدّمة دائماً.
عرفت رشدي العامل* شاعراً منذ عام 1959، بعد أن قرأت له بعض القصائد التي ينشرها في الصحافة العراقية حينذاك، عام 1970 كان نقطة التحول في العلاقة مع رشدي، إذ جمعنا مبنى جريدة (الفكر الجديد) الأسبوعية، ومن ثم جريدة (طريق الشعب) اليومية. كان وجود (أبو علي) في مبنى الجريدة عاملاً في إشاعة أجواء المحبّة بين العاملين فيها، لحيوية وحماس يتميز بهما، وأريحية لا يجيدها غيره، ومشاكسة يواجه بها خصومه عند الحاجة، لا ينافسه في الموهبة سوى الكاتب “شمران الياسري”، حين يتباريان في تخطي المحذور والخطوط الحمر التي يفرضها “الحزب الحليف”!
كان من الطبيعي أن يخوض رشدي غمار هذه التجاذبات السياسية والفكرية، غالباً ما يعبّر عنها في الحوار والنقاش والجدل خارج صفحات الجريدة، مؤمناً وملتزماً بنهجه الفكري، ومتبنياته السياسة وقناعاته الخاصة التي عبّر في أوراقه الخاصة بالقول:
أستطيع أن أسجل بكل ثقة ان اختياراتي ظلت دائماً تتميز بنوع من الوضوح والقناعة والوعي، إن النار البطيئة، النار الهادئة تنضج الطعام بشكل أفضل.
لقد حرصت فيما بعد، وأنا أقوم بدوري داعية من دواعي الفكر التقدمي، على مساعدة الناس الذين ألتقيهم، بحكم عملي السياسي، أو المهني.
شغل رشدي مسؤولية الشؤون العربية والدولية في “طريق الشعب”، هذا الرجل الطافح بالشعر، على الرغم من انصرافه لعمله المهني، يظل يراقب عن قرب، بعينين لامعتين ما يفعله زملاؤه في صفحة “ثقافة” الحافلة بما هو جديد في الأدب والمعرفة.
العمود الأول من الصفحة الثانية يذيل بتوقيع (أبو علي)، هو ميدانه الحقيقي وفارسه الأول، كان محاطاً بجيل من الصحفيين الشباب: إبراهيم الحريري، فالح عبد الجبار، منعم الأعسم، يحيى علوان، صادق البلادي، مصطفى عبود، عدنان حسين، هؤلاء وغيرهم نهلوا من خبرته وتجربته الإبداعية، البعض دخل الجريدة من باب (الأدب) ثم انصرفوا للشأن السياسي.
خاض رشدي العامل تحدياً مهنياً صعباً، إذ كان يراهن بذكائه الصحفي، وموهبته المتفردة، أن يوظف خبرات هذه الجمهرة من الأدباء لصالح الكتابة السياسية، وتحليل الحدث، بلغة جميلة ورشيقة، وعبارة رصينة، ورؤية واضحة، نجحت التجربة بولادة جيل آخر من كتّاب السياسة، نضجت بمرور الأيام والسنين، وتمكنت تلك الأسماء أن تجد موقعها الفكري والمهني بجدارة، يشار للبعض ككتاب من الطراز المتقدم.
كان لدى العامل شعور بالغبطة والانتشاء وهو يوزع محبته على زملاء المهنة، كان أقرب إلى صحبة الشباب منهم، على الدوام يجد نفسه بينهم، لأنه يمتلك عنفوانهم وتمردهم، وتطلعهم للحداثة والتجديد، ورشدي يمتلك المهارة أن يحتوي هذه المجاميع من دون استثناء. في صبواته وخلجاته يجد ندمائه في هؤلاء، يعيش فرحاً غامراً بوجوده معهم.
تجتمع فيه نقائض متعددة: الضحك والبكاء، القوة والضعف، الصمت والإشهار، الحزن والفرح، الغضب والحلم، حتى غضبه كان ليناً ولذيذاً، لا يترك مجالاً للغصّة أو الجفاء، كل شيء لديه هيّن وسهل، ينتهي بضحكة مجلجلة يتفرد بها، تكشف عن أسنان نخرها النيكوتين بوقت مبكر أو تهدّم بعضها وهو في عمر الشباب.
تابع رشدي العامل أحداثاً ساخنة وقعت في سبعينات القرن الماضي، كتب عنها بعناية واهتمام لا مثيل لهما، أثبت من خلالها مهاراته العالية في رصدها، واستشراف نتائجها، أخص بالذكر: الانقلاب العسكري في تشيلي، الانقلاب الدموي في السودان، الصراع السياسي في البرتغال، عمليات تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان والدور التأمري للنظام السوري فيها، التحولات الفكرية في الأحزاب الشيوعية الأوربية، الانتخابات الرئاسية في فرنسا، تداعيات إلغاء اتفاقية الجزائر عام 1975.
من أين لرشدي كل هذه المواهب؟ وهو الذي يقول: ليس هناك أي بديل عن الشعر. انه النافذة الوحيدة، وهو طريق النجاة الممكن من الجنون.
عن هذا التساؤل يجيب رشدي: ستظل مهمتي الأولى هي الكتابة، والكتابة نوع من الثرثرة الثمينة التي لا يجيدها كل الناس، هل يجيدها الشعراء إذن؟
كنا نتطلع إليه، ننتظره بلهفة في مطبعة الرواد، نحن العاملين في القسم الفني للجريدة، حيث المراحل الأخيرة في صدور الجريدة لليوم التالي. يبدأ رشدي شوطاً جديداً من العمل حتى ساعات متأخرة من الليل.
يتحول الليل إلى عمل ومن ثم غناء، ننصرف بعد كل ساعات السهر والعناء، نجوب شوارع بغداد، نلقي متاعبنا في جمعية التشكيليين، أو نادي التعارف، نستريح عند (أبو يونان)، وعلى بعد خطوات منه نروي عطشنا بـ (الدرافت) الجديد.
وبغداد لا تنام، إنها كائن له ما للكائن الحي من عروق وعيون ووجه وجدائل، له أيضاً ما للكائن الحي من ميلاد وطفولة وشباب وكهولة، غير انها تختلف عن الكائنات الحيّة أنها لا تموت.
في الهزيع الأخير من الليل ينحدر رشدي هادئاً وواثقاً إلى بوابة (حديقة أبو علي) من دون أن يخفي مخاوفاً وقلقاً كنا نرقبه في عينيه اللتين بدأتا بالذبول، لم يعبر رشدي عن هذه المخاوف بالكلام، لكن ثمة شيء من الحزن والألم ومشاعر بالترقب لما تخفيه الأيام، كان يصمت، ويصحو ثم ينحب:
آه يا غابة النخيل القديمة
يا حقول الصمت والوداعة والانتصار والأحلام
لقد ترقبنا أن تتحول أرضك وجزرك وبساتينك
إلى مرابع للانتجاع والاصطياف،
وها هم يحولونك إلى منفى.
…………………………
* هو رشدي بن أحمد جواد العامل، ولد في بلدة “عانة” غرب الأنبار.، أكمل دراسته الثانوية في مدينة الرمادي وتخرج في كلية الآداب ـ جامعة بغداد عام 1962.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى