في تأصيل مصدر الحكاية الشعبية

د. نادية هناوي
الحكايّة الشعبيّة قديمة قدم الإنسان، وفيها تكمن جذور التفكير البشري الأولى وأصالة الإبداع الذي يبقى متجددا ينتقل عبر الأجيال، والحاضن الأساس الذي فيه نمتْ وتطورتْ هذه الحكاية هو الخرافة، وبمرور الزمان تميزتْ بتعبيرها عن عوام الناس، فلم تكن موجهة إلى علية الناس وخواصهم من الملوك أو الحكام. وعادة ما تكون النساء هن مبتدعاتها ومتقنات أساليب إلقائها أكثر من الرجال. والغاية هي التسلية والترويح عن النفس. وتحفل الحكاية الشعبية ببعض الفحش ولا تتقيد بالاحتشام، لكن ذلك لا يمنع من أن تشتمل على بعض الوعظ وتوصيل الدروس الأخلاقية. أما فواعل سرد الحكاية الشعبية فهم البشر وغير البشر. وأقدم الفواعل غير البشرية هو الحيوان نظرا لارتباط الإنسان به حياتيا وعقائديا، بدءا من المرحلة الوحشية حين كان الحيوان هو الطوطم ومرورا بعصور الحضارة التي فيها تجلى الوازع الميتافيزيقي فصنع الإنسان الآلهة، وجعلها تحمل صفات الحيوان وقدّسها كما قدَّس أصنافا معينة من الحيوانات، وابتكر في ذلك حكايات شعبية حملت تصورات ومعتقدات تركت أثرا في حياة الشعوب وتحضرها.
وإذا كانت الملحمة هي الخلاصة الفنية للأطوار التي مرت بها الحكاية الخرافية عبر عصور سحيقة في القدم، فإنّ الحكايّة الشعبية تعد واحدا من تلك الأطوار التي أثرت تأثيرا واضحا في الملاحم، وأولها ملحمة جلجامش وفيها يتجلى التلاحم المصيري بين الإنسان والحيوان سواء على مستوى الموتيفات والتماثل في استعمال التكرار والإعادة أو على مستوى الفواعل وما يمرُّ به الحيوان من تحول أو تناسخ في أشكال متعددة أو على مستوى الثيمات كصراع الخير والشر والحياة والممات والخلق والبعث.
ولعل ما في الحكاية الشعبية من إمتاع وتسلية هو الذي يجعلها لا تتحدد بزمان معين، بل هي قادرة على أن تنتقل بكل ما فيها من فواعل وثيمات من مكان إلى آخر، مؤثرة في مختلف الحضارات على تباين عقائدها واختلاف عادات شعوبها ولغاتها. بمعنى أن محلية هذه الحكاية بوصفها تحمل خصوصية شعب ما، لا تحول دون أن تكون عالمية في انتقالها وفاعلية تأثيرها، وهذا هو سبب التشابه الكبير في الإرث الحكائي الشعبي الذي تملكه مختلف الآداب الإنسانية.
ولا شك في أنّ الحكاية الشعبية جزء من الموروث الأدبي لأية أمة، ولها أصول أو مصادر انحدرت منها، تعود إلى أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية؛ وأولها حضارة سومر في بلاد الرافدين التي تعد المظان الأول للإبداع الأدبي، والمنبع الأول الذي منه انتقلت الحكايات والأساطير إلى الحضارات الأخرى.
واهتم بعض الباحثين المتخصصين بدراسة الحكاية الشعبية بالتنقيب في الأصول، وكان الغالب عليهم نسبة هذه الحكاية أما إلى شعوب الحضارات القديمة جميعاً؛ السومرية والبابلية والآشورية والفرعونية والإغريقية والهندية وغيرها، أو ارجاع النشأة إلى زمان ومكان ولغة غير معلومة ولا محددة تاريخيا. ومن هؤلاء الباحثين إمام عبد الفتاح إمام الذي ذهب إلى أنّ الحكاية وُجِدت( في فترة مبكرة من التاريخ اليوناني قبل ايسوب .. في فترة مبكرة من التاريخ ربما ترجع إلى القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد).
وعلى الرغم من تتبع الباحث المصري شوقي عبد الحكيم لتاريخ الحكاية الشعبية ومناهج دراستها وبنياتها الفنية، فإنه نسب الحكاية الشعبية إلى المرحلة الطوطمية، واعتبر أنّ ما تنطوي عليه الطوطمية من جوانب مظلمة وبهيمية، يجعل الحكاية الشعبية بلا أصل تعرف به. وأردف حديثه عن المستوى الوحشي للطوطمية بجلجامش ممثلا بالحية التي سرقت منه النبات الذي يعيد الشيخ إلى صباه ثم ميّز بين المصدر والانتماء من جانب، وحصر الانتقال والتأثر بالعرق السامي واللاسامي من جانب آخر، فقال:( التراث السامي هو المصدر الأم الذي التقت روافده في المحصلة العربية والعبرية ثم الإسلامية الأخيرة.. من ثم انتماء الكم الأعظم من تراثنا هذا السامي العربي والعبري إلى سابق له لا سامي للسومريين الذين استولوا على معظم أراضي بلاد الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد وأقاموا حضارة.. وليس بغريب أنّ تراث العبريين هو على وجه التقريب تراث وحضارة أولئك السومريين اللاساميين، وصل اليهود عن طريق الوساطة الكنعانية، مثلهم في هذا مثل بقية الأقوام والجماعات السامية، وذلك عقب انتقال ذلك التراث إلى الورثة المباشرين وهم الكلدانيون والبابليون والآشوريون والحيثيون والكنعانيون والفلسطينيون وحتى الحيثيين الأناضوليين). ونعترض على هذا الرأي في أن المصدر سامٍ، واعتبار ما خالفه غير سامٍ بما يأتي:
اولا/ أنّ السومريين هم سكان وادي الرافدين، ولم يأتوها غازين، بل هم السلالة الأولى التي منها انطلقت أقوامُ بلاد ما بين النهرين التي تعرضت لغزو الأقوام المجاورة مراراً وتكراراً على طول المراحل التاريخية.
ثانيا/ أنّ الملحمة تمثل مرحلة متأخرة بالقياس إلى الزمان الذي فيه كان الحيوان جزءاً رئيساً من الحكاية الخرافية كما أنّ الحكاية الشعبية تمثل مرحلة متقدمة فنياً وموضوعياً بالقياس إلى المرحلة الطوطمية. وهي تمثل أيضا طوراً آخر من أطوار الحكاية الخرافية التي عرفها أدب وادي الرافدين ثم كانت أن أرست هذه الحكاية زمن الساميين قاعدتها اللاواقعية، وعليها استقرت تقاليد السرد التي تجلت واضحةً في السرد العربي القديم أبان العصور الوسطى.
ثالثا/ أنّ الفارق التاريخي جوهري بين قيام الحضارة السومرية ومجيء الساميين الذي استقوا كثيرا من أدب السومريين. ولقد شهد هذا الأدب هجرات وانتقالات إلى الآداب القديمة، وليس الأدب الكنعاني وحده.
رابعا/ أنّ الكلدانيين والبابليين والآشوريين هم امتداد للسلالة السومرية، وجميعهم يمثلون أقوام بلاد الرافدين أو ما بين النهرين و(أن السومريين هم أول من استعمل الخط المسماري في تدوين لغتهم التي هي ليست من اللغات الجزرية) وأثَّر أدبهم في الحضارات المجاورة في بلاد الشام ووادي النيل وبلاد الأناضول وبلاد فارس وعرب الجزيرة. ولقد أكّد شوقي عبد الحكيم أنّ (ألف ليلة وليلة ذاتها ما هي سوى محصلة نهائية للحكايات العربية في الجزيرة العربية ودلتا مصر والشام والرافدين) وبغض النظر عن أهمية الترتيب التاريخي الذي يقتضي تقديم بلاد الرافدين، فإن هذه المحصلة التي انتهى إليها الباحث عبد الحكيم تنقض ما كان قد ذهب إليه من أنّ الأصول غير معروفة، وأنها ترجع إلى عصور وحشية غامضة سبقت الحضارة البشرية.
خامسا/ ( يتفق الباحثون العرب والمستشرقون على أن فكرة انحدار الساميين من صلب رجل هو سام مجرد أسطورة لا وجود لها). أما النظرية التي تذهب إلى أنّ بلاد ما بين النهرين هي مهد السامية، وأنّ الآشوريين والبابليين ساميون، فتنقضها نظرية أخرى تذهب إلى أنّ جزيرة العربية هي مهد السامية، ومنها تفرَّق الساميون في صدر الإسلام. علماً أنّ مصطلح السامية انتشر مع أدبيات التوراة ودراسات الاستشراق.
إنّ البحث في أصول الحكاية الشعبية يأتي من أهمية الربط بين اللغة وتقاليد الحكي، وكيف استقت الحكاية الشعبية موضوعاتها، ولماذا صار الحيوان أقدم وأهم فواعل هذه الحكاية. الأمر الذي جعل الحكاية الخرافية تشكل الأساس أو القاعدة اللاواقعية التي عليها قام نظام السرد القديم، وعلى هذا النظام قام السرد الحديث.
إنّ السير على تقاليد السرد لم يكن يحتاج إلى تقعيد نقدي أو فلسفة أدبية، وإنما السرد مثله مثل الشعر، كان قد تعارف مبدعوه على سمات معينة اتقنوا السير عليها. وبتكرارهم إياها استقرت تقاليد البناء، وغدت قواعد معروفة، تماما كقواعد نظم الشعر ثم انتقلت من جيل إلى آخر، وهاجرت عبر الترجمة والتجارة من بلاد الشرق إلى إسبانيا وإيطاليا ثم أوروبا كلها.
