متاهات وميكانيك الكم

ألبرتو جِيْ. روخو*
ترجمة: لطفية الدليمي
يمكن صياغة السؤال المركزي في ميكانيك الكم والذي يلخّصُ معضلة القياس Problem of Measurement التي لم يتمّ حلّها بعدُ في سياق مثالنا على الكيفية التالية: إذا كانت كلٌّ من ماري والذرّة خاضعة لقوانين ميكانيك الكم، وإذا كانت الذرّة في حالة تراكب من الحالات قبل القياس، وفي حالة واحدة محدّدة تحديداً جيداً بعد القياس، فما هي الآلية التي تستطيع الذرّة من خلالها أن تختار حالة بعينها ولا تختار حالة أخرى سواها؟ ثمّة إجماعٌ جمعي عام سائد بين الفيزيائيين في أنّ بلوغ حلّ مناسب لهذه المعضلة أمرٌ يتجاوز حدود ميكانيك الكم، بل يتجاوز نطاق علم الفيزياء بأكمله. برغم هذا تظلُّ نظرية الكم وذراعها الرياضياتية (ميكانيك الكم) قادرة (وبدرجة عالية من التقريب) على حيازة أعظم قدرة تنبؤية وتفسيرية لأيّة نظرية فيزيائية.
الحلّ الوحيد لهذه المفارقة قد يكمنُ في نظرية إيفيريت التي تقترحُ مخرجاً متماسكاً للمعضلة على الرغم من أنّها تبدو غريبة للغاية وغير مستساغة لذوق بعض الفيزيائيين الذين يكيلون لها الإتهام ويرونها أقرب إلى (دواء وهمي لفظي الطابع)(7)، و(تنطوي على الكثير من المبالغة)(8)، و(تحمل الكثير من المَتاع الميتافيزيقي)(9). لا بدّ في نهاية الأمر من بلوغ مفترق الطرق في متاهة معضلة الميكانيك الكمومي: إمّا أن نقبل بنظرية ميكانيك كم غير مكتملة، أو أن نقبل النظرية المتنازع عليها والخاصة بالعوالم المتوازية Parallel Worlds لإيفيريت وديويت، وفي الحالة هذه سيكون العالمُ هو المتاهة التي تصوّرها تسوي بن Ts’ui Pên، الذي:
“… آمن بسلسلة لا نهائية من الأزمنة، شبكة متنامية ومذهلة من الأزمنة المتباعدة والمتقاربة والمتوازية. ذلك النسيج من الأزمنة التي تقترب من بعضها، أو تتفرّع، أو تنقطع، أو تظلّ -ببساطة- غير معروفة لقرون. ذلك النسيج هو الذي يحوي كلّ الإحتمالات. في معظم تلك الأزمنة لا وجود لنا. في بعضها أنت موجود وأنا غير موجود، وفي بعضها الآخر أنا موجود وأنت غير موجود، وفي بعضها الآخر نحن موجودان معاً. …” (10)
انقساماتُ (تسوي بن) وتداعياتُ (هيو إيفيريت الثالث)
في مقدّمته للطبعة الأصلية من أوّل مجموعة قصصية له أسماها قصص خيالية Ficciones، يعلنُ بورخس أنّ “حديقة المسالك المتشعّبة” قصّة بوليسية. بطلُ هذه القصّة، الجاسوس يو تسون، يعمل في خدمة الألمان خلال الحرب العالمية الأولى، والمهمّة الموكلة إليه هي إرسالُ إسم مدينة معيّنة إلى الألمان. يتبع يو تسون في رحلته الجاسوسية القبطانُ الجلِدُ ريتشارد مادن الذي يعمل على إبلاغ رسالة تفيد بقتل عالم الثقافة الصينية الأشهر ستيفن ألبرت لأنّه يحمل إسم المدينة الفرنسية التي يعتزم البريطانيون البدء بمهاجمتها. يعلم مادن أنّه سيُعدَمُ مباشرة بعد قتله ألبرت، وأنّه بعدما تنشر الصحف البريطانية عن حادثة القتل مقترنةً بإسمه وإسم ألبرت سيتلقى الألمان الرسالة. يعثر يو تسون على عنوان ألبرت في دليل الهاتف، وحالما يصل هناك، وبمعونة مصادفة بورخسية مثيرة يتعرّفُ ألبرت على يو تسون باعتباره أكبر أحفاد عالم الفلك الصيني (تسوي بن) الذي كتب كتاباً غير عادي عنوانه: حديقة المسالك المتشعّبة.
كان (تسوي بن) قد إرتضى أن يتكفّل يوماً ما بعبء مهمّة غير عادية: بناء متاهة معقّدة تعقيداً لا نهائياً، وكتابة رواية لا نهائية كذلك.عقب وفاته رأى جميع من عرفه أنّه خاب في مسعاه لأنّ وجود المتاهة غير واضح، وأنّ الرواية لم تكن غير مكتملة فحسب بل جاءت نتيجتها عملاً سخيفاً وغير متماسك (على سبيل المثال: يموت البعض من الشخصيات في فصول محدّدة، ثمّ يحصدون الكمثرى في فصول لاحقة!!). يندهش يو تسون أعظم الإندهاش عندما يبوح ألبرت عن إكتشافه بشأن الرواية الغامضة معلناً: الكتاب هو المتاهة، والمتاهة ليست مكانية بل زمانية. الحديقة هي صورة الكون كما تصوّرها تسوي بن، ولو إرتأينا القبول بفرضية إيفيريت في العوالم المتعدّدة فسيكون العالم مثالاً لحديقة ذات مسالك متشعّبة.
دعونا الآن نعود ثانية إلى تجربتنا مع ماري والذرّة. تأسيساً على فرضية إيفيريت في العوالم المتعدّدة (المتوازية أيضاً)وبعد أن تدرك ماري أنّ الذرّة في حالة محدّدة تحديداً جيداً (بمعنى: عندما تنجز ماري قياساً لحالة الذرّة، المترجم) فإنّ الكون حينذاك ينقسم إلى نسختين متطابقتيْن تقريباً: يكون دوران الذرّة في أحدهما للأعلى، وفي الآخر يكون للأسفل. يطرق المؤلفان (بورخس وإيفيريت) الفكرة المركزية ذاتها بمقاربة متشابهة على نحو يثير الدهشة. يكتب إيفيريت في القسم الخامس من مقالته الاصلية:
” ترتيبات تكوين الذاكرة لدى المراقب (بمعنى الموكل بأمر القياس، المترجم) الذي ينجز سلسلة من القياسات ليست ترتيباتٍ خطية لتشكُّل الذاكرة بل هي شجرة متفرّعة توجد فيها جميع النتائج الممكنة في الوقت ذاته”(6)
وفي (حديقة المسالك المتشعّبة) يكتب بورخس:
” في جميع القصص الخيالية، في كلّ مرّة يلتقي فيها رجل بخيارات كثيرة فإنّه يختار مسلكاً واحداً ويستبعد الأخرى. في عمل (تسوي بن) الذي لا يمكن تفكيكه او إختزال علاقاته المتشعّبة تختار الشخصية في وقت واحد جميع البدائل المتاحة معاً. هو يخلق بالتالي مستقبَلاتٍ Futures عديدة، ولمرّات عديدة كذلك، وكلّ مستقبل منها يتفرّع ويتكاثر بدوره إلى مستقبلات عديدة……”(11)
أين توجد كلّ هذه الأكوان (العوالم) المتعدّدة؟ واحدة من الإجابات أنها “هنا” حيث يوجد “كوننا”. طبقاً لفرضية إيفيريت لا تتفاعل هذه الأكوان وليس ثمّة سبب يستبعد إمكانية اشغالها لذات الحيّز. إجابة أخرى ترى أنّ هذه الأكوان “متراكمة” في بعد إضافي لا نعرف عنه شيئاً. يتوجّب هنا التمييز بين هذه الإحتمالية ومفهوم (الأبعاد اللانهائية للزمن) التي أوردها بورخس في مقالته عن جَيْ. دبليو. دن J. W. Dunne التي عنوانها (إستنطاقات أخرى Other Inquisitions). تبعاً لِـ (دون) الذي ربّما إستوحى بورخس كتاباته وتمثّلها في بعض ما كتب، فإنّه يتحدّث عن أزمنة متعامدة على بعضها (12). “هندسة” الزمن هذه لا تتناسب مع العوالم المتعدّدة التي تقترحها فرضية إيفيريت، وهي بالتأكيد مختلفة عن الزمن المتفرّع الذي إقترحه (تسوي بن).
يبدو أنّ بورخس أوّلُ من إبتدع هذا البديل للزمن الخطي Linear Time. الإحتمال الآخر، الزمن الدوري Cyclic Time له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة(13) وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. مع تعدّد الأزمنة تبدو الحكاية مختلفة:
” أنكر هيوم Hume وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب” (14)
عندما كنتُ منغمراً في مهمّة تجميع المواد اللازمة لكتابة هذه المقالة حصل أن سألتُ برايس ديويت (المشار إليه سابقاً)، والذي كان يعمل آنذاك في جامعة تكساس في أوستن، بشأن معرفته بقصّة بورخس (حديقة المسالك المتشعّبة) عام 1971 عندما صاغ للمرة الأولى مصطلح “عوالم متعدّدة Many Worlds”، فأجابني أنّه لم يكن يعرف بها، وأنّه علم بها من مسموعاته لِما تحدّث به الفيزيائي البريطاني لين هيوستن من أكسفورد. ثمّة ملحوظة أخرى في هذا السياق: في مجموعة من المقالات المنشورة عام 1972 والتي إحتوت نسخة موسّعة من ورقة إيفيريت البحثية الأصلية يمكن للمرء معاينة أحد العناوين وهو يستشهد في مادته بقصّة بورخس ويذكر عنوانها الصريح (15).
أخيراً، ما الذي نتعلّمه من هذا التوازي المذهل بين نصّ بورخس وفرضية إيفيريت وديويت؟ في نهاية الأمر لا بدّ أن نقتنع بوجود مصادفات Coincidences، وهذه المصادفات تدفعنا للخلط بين الإرتباط Correlation والسبب Cause والنتيجة Effect والتشابه Similitude والتمثّل Representation(16). أرى أنّ التشابه بين النصّين يكشف لنا عن الطريقة غير العادية التي إنغمس بها عقل بورخس في حياكة النسيج الثقافي للقرن العشرين- ذلك النسيج الذي هو أقرب لشبكة معقّدة تتفرّع مكوّناتها السرّية إلى ما هو أبعد من الحدود الفاصلة بين التخصصات المعرفية. هيكل الخيال العقلاني في قصص بورخس القصيرة -التي تتقارب أحياناً مع النظريات أو الفرضيات الخيالية- قادرٌ على تقطير الأفكار في هيأة جنينية تتموضع في نطاق الأدب قبل أن تنتهي نظريات علمية راسخة البنيان. فكّرْ في هذه المفارقة المثيرة: يمكن قراءة أفكار إيفيريت وديويت على أنّها خيال علمي، وفي الوقت ذاته يمكن قراءة الخيال في (حديقة المسالك المتشعّبة) على أنّه علمٌ. (إشارة إلى حالة التعابر والتلاقح بين التخصصات البحثية والاشتغالات المعرفية، المترجم).
*****
في ذلك الصباح التمّوزي عندما قابلتُ بورخس في الفندق شعرتُ بالإرتباك من إجابته (راجع القسم الاول من المقالة، المترجمة). اليوم بتُّ أفهمها كإستعارة كاشفة لما يمكننا معرفته دون أن نعرف بأنّنا نعرف!!. أتذكّره حينها وهو يقول لي ولوالدي:
كم هو أمرٌ غريب!!. إنّه لأمرٌ غريب حقاً أنّ الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الفيزياء أتاني من والدي الذي أراني يوماً كيف يعمل المضغاط (البارومتر، مقياس الضغط الجوّي)
قال هذه العبارة بتواضع شرقي. قالها ثمّ راح يحرّك يديه في الهواء محاولاً رسم الجهاز، ثمّ أضاف:
“الفيزيائيون ذوو خيال مبدع للغاية”
* ألبرتو جي. روخو Alberto Rojo: فيزيائي أرجنتيني ولد في توكومان. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء من معهد بالسيرو واصل حياته المهنية في الولايات المتحدة. عمل باحثاً في جامعة شيكاغو وأستاذاً متفرغاً في جامعة أوكلاند. نشر العديد من الأوراق البحثية في المجلات الرائدة، فضلاً عن مساهماته في تعليم العلوم. هو مؤلف كتب عديدة أهمّها مبدأ الفعل الأقلّ: التاريخ والفيزياء
The Principle of Least Action: History and Physics
(دار نشر جامعة كامبريدج، بالتعاون مع أنتوني بلوخ).. هو عضو متعاون في الأكاديمية الأمريكية الشمالية للغة الإسبانية، وهو أيضاً موسيقي بارز لديه ثلاثة ألبومات فردية. (المترجمة)
– الموضوع منشور بملف PDF على موقع جامعة أوكلاند. يمكن الحصول على الملف وقراءة المادة الأصلية باللغة الإنكليزية بالرجوع إلى الرابط الألكتروني التالي:
chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://our.oakland.edu/server/api/core/bitstreams/d5907479-0cb0-4611-831a-61dcbe3ef068/content
عنوان الموضوع الأصلي هو:
The Garden of the Forking Worlds: Borges and Quantum Mechanics
