متاهة الزمن والذات بين الاستلاب والتمرد في رواية”سفينة إسماعيل” لعلي لفتة سعيد

عبد الرحيم التدلاوي
تُبنى الرواية على هيكلٍ دائريٍّ مغلق، يوحي بتشابهٍ قوي مع سجن كافكا في “المحاكمة”، حيث تتحوّل حياة إسماعيل إلى حلقاتٍ مُكرَّرة من التفاصيل اليومية مثل العمل والعلاقات والذكريات. هذه الدائرة المغلقة ليست مجرّد بناءٍ مكاني، بل تمتد لتشمل الزمن نفسه: إسماعيل عالقٌ في انتظارٍ لا ينتهي، يشبه بطل بيكيت في “في انتظار جودو”، إلا أنه في حالة انتظارٍ أكثر غموضًا وألغازًا، انتظارٌ لمحاكمة تُنظّمها “حبيبته-الزمن” التي ترفض الكشف عن مصيره.
إن البنية السردية تعكس العبث الوجودي؛ فالسرد لا يتقدّم، بل يتحرّك في دائرةٍ مغلقة، مُكرِّرًا الحركات نفسها باستمرار. وكأن الرواية تسعى لإيصال فكرة أن الحياة ما هي إلا سلسلة من الذكريات التي يتم إعادة إنتاجها بشكلٍ لا معنى له. الحياة إذًا، وفقًا لهذا المنظور، تُجسد في شكلٍ متكرر، لا يتطور ولا يفضي إلى فهمٍ أو كشفٍ حقيقي للمصير.
النصوص والمحاورة والتناص
العلاقة بين إسماعيل وزمن هي اللّب الروحي للرواية، حيث يُقدَّم زمن ككائنٍ أنثويٍّ متوحّش، يجمع بين خصوبة الخلق وقسوة التدمير. هذه “الحبيبة” تستحضر ذكرياته عبر الروائح، كما في “البحث عن الزمن المفقود” لبروست، لكنها في ذات الوقت تفسد هذه الذكريات وتشوِّهها، مما يجعلها تتبدل إلى أرشيفٍ مهترئٍ، تمامًا كما في “مكتبة بورخيس” الضائعة.
التناقض هنا حادٌّ: فالحبيبة (الزمن) تمنح إسماعيل سببًا للوجود عبر الذكريات، لكنها في ذات الوقت تسلبه منه عبر النسيان المتعمد. يظل إسماعيل محتارًا في هذا الواقع المزدوج، حيث تمنحه الذاكرة شعورًا بالوجود ولكنه يفقده في ذات اللحظة.
في رواية بروست، كانت رائحة المادلين بمثابة الجسر السحري الذي يعيد الماضي بكامل تفاصيله. في المقابل، في “سفينة إسماعيل”، الرائحة تمثل فخًّا وجوديًّا يهدم الذاكرة بدلاً من أن يعيدها. الرائحة هنا ليست بوابة لاسترجاع الماضي، بل أداة لتشويه الذاكرة، مما يجعل الهوية هشَّةً ومرتبكة. يتم تجسيد هذا بشكلٍ واضح في شواهد تشابه مع رواية “العطر” لزوسكيند، حيث يُستخدم العطر كأداة للتحكم في العالم المحيط بالإنسان. لكن إسماعيل لا يمتلك القدرة على التحكم في الروائح، وهو ما يعكس فقدان السيطرة على الذات. تصبح الرواية بهذا الشكل بمثابة إعلان بأن “الذاكرة خيانةٌ مُبطَّنة بالروائح”.
ولذلك فالرواية تحاور نصوصًا أدبية وثقافية كبرى بأسلوبٍ مميّز، مما يعمّق من فهمنا للمعنى الرمزي الذي تحمله.
“المحاكمة” (كافكا): يُعاد إنتاج العجز الذي يشعر به إسماعيل أمام الزمن، تمامًا، كما يشعر بطل كافكا العاجز أمام النظام القضائي الغامض. والقصص الدينية (إسماعيل والطوفان): تتحوّل التضحية في الرواية إلى استعارةٍ لتسليم الذات لمصيرٍ عبثيّ، لا لإرادة إلهية، مما يطرح تساؤلًا عن المعنى الحقيقي للتضحية في هذا السياق العبثي.
“مكتبة بورخيس”: تتبدّى ذاكرة إسماعيل كمكتبةٍ لانهائيةٍ مليئة بالكتب الضائعة، التي لا دليل يوجّه القارئ نحو الحقيقة المطلقة. هذه الذاكرة تصبح لغزًا مستمرًا، دون أي دليل يقود إلى حلٍّ حقيقي.
فيبدو التناص في الرواية لا يُعد مجّرد استعراض ثقافي فحسب؛ بل هو نقدٌ للمعرفة نفسها: فالحقيقة الوحيدة التي يمكن أن نصل إليها هي أننا نعيش في متاهة النصوص، ولا يوجد من يُرشِدنا للخروج منها.
الوجود الإنساني: العلاقة و التمرّد
في قلب العبث الوجودي، تطرح الرواية السؤال الوجودي الأكثر جوهرية: كيف نصنع معنى في عالمٍ لا يمكن تفسيره؟
إسماعيل، في مواجهة هذا العبث، يختار الحب كتمرّدٍ أخير: حبّ “زمن” رغم قسوته، وحب الذكريات رغم تآكلها، وحب الحياة رغم عبثيتها. هذا الحب ليس رومانسيًا بالمعنى التقليدي، بل هو فعلٌ وجوديّ صارخ. إنّه صرخة في وجه الوجود، صرخةً من أجل البقاء: “أنا هنا!”.
لكن الرواية لا توفر إجابة مُطمئنة؛ إذ تظل “السفينة” في حالةٍ تحرك مستمر، ولا ترسو أبدًا. وكأنها تُذكِّرنا بأن الوجود الإنساني نفسه ليس سوى رحلة بلا وجهة، رحلة بلا نهاية تُنتِج حالة من التشظي والتعقيد. فتبدو “سفينة إسماعيل” ليست مجرّد رواية، بل هي مرآةٌ لعصرنا: عصر القلق الوجودي، والذاكرة المفرغة في العالم الرقمي، والزمن السريع الذي يبتلعنا. فالرواية تعيد تعريف الحب كـمقاومة، الذاكرة كـوهمٍ ضروري، والزمن كـعدوٍّ حميم.
في النهاية، تبقى الرواية بمثابة قصيدة نثرية عن الإنسان: ذلك الكائن الهش الذي يُصارع الفناء بالحب، حتى وإن كان هذا الحب هو ذاته الفناء.
إن العلاقة بين “إسماعيل وزمن” تتجاوز حدود الحب العاطفي لتصبح ساحةً لصراع بين الذاكرة والواقع، بين الماضي الذي يشدّ “إسماعيل” بقوة والحاضر الذي يفرض عليه تحوّلات قسرية. هي ليست مجرّد قصة حب انتهت، بل رحلة تأمل في الهوية والخيارات الشخصية، حيث تتداخل العواطف بالفكر، ويتحول الحنين إلى ساحة مواجهة داخلية تتجلى عبر اللقاءات والحوارات والذكريات.
فمن اللحظة الأولى التي تعيد إلى “زمن” لم تكن مجرّد مصادفة عابرة، بل هي اصطدام بين حاضرٍ باردٍ، وماضٍ مشحونٍ بالعاطفة. رائحة المسك في دائرة التقاعد ليست مجرّد عبير، بل بوّابة زمنيّة تفتح جراح الذاكرة، فتجعل “إسماعيل” يواجه ذاته، التي حاول طمسها خلف روتين الوحدة. هذا الاستدعاء العاطفي ليس حنينًا ساذجًا، بل استيقاظٌ لحالة وجدانيةٍ مكبوتة، حيث يصبح العطر تجسيدًا لحضور “زمن” في لا وعيه.
وحين يلتقيان، لا يكون اللقاء عاديًا، بل لحظة تجمّد فيها الزمن، حيث تنكشف هشاشة “إسماعيل” رغم ما يبدو عليه من صلابة. التوتّر الذي يتسلّل إلى ملامحه، وارتباك زمن خلف عباءتها، يعكسان حجم الصراعات غير المعلنة، التي تراكمت عبر السنين. الحب هنا ليس مجرّد عاطفة، بل هو امتحان للذات، اختبار للماضي في مواجهة الحاضر، حيث تقف الشخصيتان على حافة البوح، تتأرجحان بين الاعتراف والهروب.
الذكريات والاستلاب
أما الحوارات بينهما، فليست مجرّد تبادل كلمات، بل صراع رؤى. الفلسفة، التي يراها إسماعيل خلاصًا من الجهل والاستبداد، تتحوّل في عين “زمن” إلى عبءٍ قد يقود إلى الجنون. هنا يظهر الفارق بين من يرى الفكر سلاحًا ومن يراه حملًا. هذا الجدل لا يكشف فقط طبيعة شخصيتيهما، بل يعمّق التباين بين عوالمهما: “زمن” التي تحاول التشبث بالواقع، و”إسماعيل” الذي يبحث عن معنى يتجاوز حدود اللحظة. كلّ منهما يرى الآخر من زاويةٍ مختلفة، مما يجعل العلاقة بينهما أقرب إلى مواجهة بين منطقين للحياة، حيث يصبح الحب نفسه موضع تساؤل.
لكن أكثر ما يثقل العلاقة هو الذكريات. “إسماعيل” يستعيد لقاءاتهما في الصحن الحسيني، حيث كان يهدي “زمن” الكتب كأنها عهود حب، وكأن المعرفة كانت وسيلته لنسج علاقة تتجاوز الجسد إلى الفكر. لكن الذاكرة ليست مجرّد استرجاع للماضي، بل أحيانًا تكون لعنة. حين يكتشف أن “زمن” أصبحت “جدّة هامدة”، يدرك أن الزمن لم يسرق الحب فقط، بل سلبه حتى الحلم به. الذكريات التي كانت تمنحه الدفء تتحوّل إلى دليل على الخسارة، مما يدفعه إلى إعادة التفكير في ماهية الحب ذاته: هل كان حقيقيًا أم مجرد صورة رسمها خياله؟
في النهاية، عند باب القبلة، حيث يلتقيان للمرة الأخيرة، يدرك إسماعيل أن بحثه عن “زمن” لم يكن بحثًا عن شخصها، بل عن ذاته التي ضاعت في متاهة السنوات. الحب هنا لم يعد غاية، بل وسيلة لفهم أعمق للوجود. حين يقول ” أقف في باب القبلة أو باب الرجاء، أضع كرسيًّا وأفتح ذراعيّ مثل مسيح يوصي أتباعه بما هو مخبوء لهم. إيّاكم والابتعاد عن الحب. ما سيأتيكم سيعلّمكم الكراهية ولو بعد حين “، لا يكون هذا وداعًا لزمن كشخص، بل تحررًا من الحنين الذي كان يقيده. يتحول الحب إلى فكرة، إلى رمزٍ للمعرفة والبحث عن معنى، فتكون “السفينة” الحقيقية التي تنقذه ليست العلاقة ذاتها، بل الكتب التي شكلت هويته.
· ناقد مغربي
