مختارات بوكوفسكي.. حيث لا خطوط فاصلة بين القصيدة والقصة والرواية

علاء المفرجي
“محترقا في الماء غارقا في اللهب” للشاعر تشارلز بوكوفسكي بترجمة زياد عبد الله، وهي قصائد مختارة من 1955-1973، جزء من مختارات من أروع قصائد الشاعر الأمريكي الأشهر والأكثر تقليدًا، تشارلز بوكوفسكي. تحتفي هذه القصائد بحساسيته الاستثنائية وبراعته اللغوية التي لا تلين، وتغطي تجاربه طوال حياته، بدءًا من أعماله المبكرة التي تمردت على أسلوبه وصولًا إلى قصائده التي لم تُجمع من قبل والتي كتبها في أيامه الأخيرة.
اختارها جون مارتن، محرر بوكوفسكي المخضرم وناشر دار نشر بلاك سبارو الشهيرة، لتُعد هذه المجموعة، كما يصفها مارتن، “أفضل ما في بوكوفسكي”. يُعد ديوان “ملذات الملعونين” كنزًا شعريًا مذهلًا، وقراءةً أساسيةً لكلٍّ من المعجبين المخلصين ومن يكتشفون هذا الصوت الأمريكي الفريد والهام.
يقول الروائي زياد عبد الله: أقترفت هذه الترجمة في صيف 1999، في مسعى للتعويض عن هجران الشعر لي حينها، وكان قد مضى أكثر من ستة أشهر لم أكتب فيها سطر شعر واحداً، وللدقة كنت أكتب لكن أجد ما أكتبه أشدّ تفاهة من طعم سيجارة بعد تناول “حز” بطيخ أو قضم خيارة، وليأتي انقضاضي على قصائد بوكوفسكي تعويضاً، وسعياً لإيجاد الحد الأدنى من التوازن النفسي، وقد كان ذلك ناجحاً، ما دمتُ لم أنتحر، وليس لدي من إثبات على ذلك سوى تلك القصائد التي ستأتيكم فيما يلي.
تقاسمتُ بيتاً مقابلاً للبحر مع صديق كان منهمكاً في التحضير لرسالة ماجستير في الهندسة المعمارية، هو في غرفة وأنا في الغرفة الثانية، هو غارق بمراجع عن العمارة والبنيوية وما بعد البنيوية، وأنا أصارع قصائد بوكوفسكي باحثاً عن معادلها العربي، بعضها يستسلم لي دفعة واحدة، والبعض الآخر يتمنّع لدرجة القنوط من أن يكون المقابل العربي على شيء مما هاجمني في النص الأصلي الإنكليزي، وهكذا ومن حينه خلصت إلى نظرية لعينة في ترجمة الشعر، لي أن أعرض لها ومن ثم انتقل للتقديم لتشارلز بوكوفسكي والقصائد المترجمة في هذا الكتاب.
تجاوزت كتب بوكوفسكي – قبل موته – الخمسين: مجموعات شعرية، وقصصية بعضها يختلط بالقصائد، فضلاً عن ستّ روايات. ولعل عدد كتبه بلغ الآن ما يتجاوز هذا الرقم بكثير. ففي كل عام، تُطالعنا مجموعة قصائد لم تنشر قبلاً، ومكتشفات نثرية لم تستقر بين دفتي كتاب كونها نُشرت في مطبوعات هامشية ومجلات “بورنو” مثل قصته الأولى “بعد رسالة رفض مطولة”.
مع ذلك، يبقى الأمر مفتوحاً على اكتشافات جديدة، غزارته دفعته إلى أن يحبّ ما قاله ترومان كابوتي عنه “إنّه ينسخ فقط”، أو ما قاله هو عن فسه: “إنني أتبوّل قصائد”، موصياً في الوقت نفسه الشعراء الإكثار من شرب البيرة، وحب النساء الجميلات، وكتابة أقلّ قدر ممكن من القصائد العاطفية، والذهاب إلى مراهنات الخيل “تراهن وتكسب إن كان بمقدورك، لأن بإمكان أي حقير أن يصبح خاسراً جميلاً”.
ليس في أدب بوكوفسكي خطوط فاصلة بين القصيدة والقصة والرواية، جميعها تأتي من جهة واحدة هي الحياة، والبشر بلحمهم ودمهم وروثهم وأوساخهم ونقائهم، فتكوّن مجتمعةً مرآةً تحتشد على سطحها شتى أنواع الصور. وعندما يعود إلى تاريخ ما أو أسطورة، فإنّه لن يقدّمها إلا كما لو أنّه صادفها للتوفي الشارع، فهو يستعيد الموسيقي الروسي بورودين بقوله: “في المرة المقبلة عندما تستمع لبورودين، تذكّر زوجته التي استعملت مؤلفاته لفرش علب القطط”!
في القصائد التي تلي هذه المقدمة ستحبّه امرأة تزرع البندورة في بيتها، وأخرى ترسل له قصائد عن الشهوة والاغتصاب ويتركها عذراء وشاعرة رديئةً، خالصاً إلى الإيمان بأنّ “امرأة لم تفتح ساقيها طوال خمس وثلاثين سنة، سيكون قد فاتها أوان الشعر والحب”. لا بل إن “محترقاً في الماء، غارقاً في اللهب” الذي يحمل أجمل القصائد التي كتبها بوكوفسكي بين
١٩٧٣ – ١٩٥٥ سياتي بعد محاولاته العديدة في القصة، فهو كما هي أمام رغبة دار “بلاك سبرو” بنشر كتاب له “ليس لدي أية قصائد جديدة حالياً ولما عادت القصائد لتستقر بين دفتي كتاب متلقية عنوانها بوداعة “في شارع الرعب .. في درب الأسى”، وليمتد ذلك ليشمل رابع المجموعات التي اختيرت منها هذه القصائد أي “محترقاً في الماء، غارقاً في اللهب”،
لم تدرك الشهرة بوكوفسكي إلا في الخمسين. كان غارقاً في بحر من لكحول، متشرّداً، متنقلاً من عمل إلى آخر: سائق شاحنة، غاسل صحون، ساعي بريد، عامل مصعد… مبلّلاً بالكحول وسيلين ودوستويفسكي وهمنغواي وميللر، بينما تطفو “حركة البيت” Beat Generation على سطح الأدب الأميركي وروّادها وليم بوروز وجاك كيرواك وآلن غينسبرغ.
