ثقافة وفن

نجيب محفوظ وحياة الكتابة

كه يلان محمد
بعض المهن والأعمال قد يكون عمرها محدوداً لايمكنُ للإنسان ممارسته في جميع مراحل حياته. بل يأتي وقت يدركُ فيه بأنَّ ما استمدَّ منه الشعور بالحيوية لم يعدْ مصدراً للتشويق أو لايوفر له فرصةً لإنشاء عالمه الخاص.هذا ما يجربه من أبلى بلاء حسناً في المجال الذي كان يستهويه.ربما يتكررُ مشهدُ الوداع لمشاهير اللعبة والفن إذ بعدما تذوق اللاعبُ طعم النجومية أو توَّج الفنان أيقونة للمسرح والسينما يغادرُ الأول الملاعبَ أما الثاني لايعيده إلى الواجهة سوى أدواره التي نبغ في تقمصها.لكن هل ينطبقُ هذا السيناريو على حرفة الكتابة؟ كيف يتمكنُ الكاتبُ من تمديد عمره الإبداعي؟ هل تشيخ الطاقة الإبداعية متزامناً مع ضمور الجسد أو يمكنُ مراوغة الزمن وتوظيف الاحتياط من الخبرات المتراكمة لاكتشاف منحى آخر من التأمل والتفكير؟وبالتالي لاتتأثر العطاءات الفكرية بأحكام الجسد وحركة الساعة البيلوجية. من المعروف أنَّ عدداً من الأسماء الأدبية قد بدأت مسيرتهم الإبداعية في وقت متأخر إذ شارفَ إمبرتو إيكو العقد الخامس من عمره حين نشرتْ له رائعة “اسم الوردة” كذلك فإنَّ ما طمح إليه همنغواى من كتابة تعكسُ فيها كل أبعاد العالم المرئي والروح الإنسانية قد تأجل إلى أن ألَّفَ “الشيخ والبحر” إذن كسب الرهان وتفوق على نفسه بنصٍ يقوم على تثوير اللغة وتدشين خطٍ مُختلف في الكتابة أيا يكن الأمر فإنَّ التوتر الإيجابي لاينقطعُ عن تفاصيل الكتابة.والأهمُ في هذا الإطار هو مايترشحُ من بيانات الكاتب بشأن كواليس أعماله الإبداعية.
بيانات إبداعية
بالطبع أنَّ يفتحُ الباب على محترف الإبداع وطبقاته الجوفية ويرفعُ الغطاء عن تمارين الكتابة هو مايلمحُ إليه المؤلف من خلال مقالات الرأي أو يعلنه في سياق تصريحاته الصحافية وحواراته المنشورة. على منوال مبادرة الصحافي الأمريكي “لاري فيليبس” لرصد ماورد في مؤلفات وشذرات همنغواي عن مفهوم الكتابة وتدوينه لآراء صاحب “وداعاً للسلاح” عن مؤثرات حسية للكتابة وبرنامجه اليومي وهو منهمك على تأليف الرواية.ونقله لمحتويات الرسائل التي تبادلها مع بعض أصدقائه ولاتغيبُ عنها الهموم الإبداعية إذ نشر كل ذلك في كتاب “مباهج الكتابة وأوجاعها” جمع الكاتب المصري عمرو فتحي بين دفتي إصداره الأحدث “نجيب محفوظ عن الكتابة” ما توارد في حوارات ولقاءات نجيب محفوظ بشأن تكوينه الإبداعي ومنهجه في الكتابة هذا إضافة إلى كلامه التوضيحي حول رواياته والملابسات التي رافقت بعض العناوين. يتسعُ الفصل الأول من الكتاب للحديث عن رأي محفوظ لمفهوم القصة إذ يشيرُ مؤلف ” ميرامار” إلى أنَّ الصورة الأولى التي قد تبدت في ذهنه لفن القصة قد تمثلت في قصص القرآن الكريم.موضحاً أنَّ القصص القرآنية مسبوكة على طراز أحدث مايكون عليه الفن الروائي.ومن المعلوم أنَّ الأحداث لاتتخذُ نسقاً متتابعا في الرواية الحديثة بل تستجيب لإيقاع البناء الدرامي الذي يهدفُ إلى زيادة التشويق في وحدات المادة المروية.يشيدُ نجيب محفوظ بدور الجامعة في نشأته المعرفية وانتظامه في التحصيل الثقافي.ومايتمُ التأكيد عليه أنَّ عصر الفنان غير المنتسب لمعهد قد مضى وانقضى. يعترف محفوظ بأنَّه قد نشر أغلب أعماله وهو في حالة الدوامة النفسية والفكرية.ويبدو أنَّ الهدوء يوازي الرتابة في المذهب الإبداعي وما تستشفُ من كلام محفوظ أنَّه يشاركُ الناسَ حياتهم وفهمه للواقع مستوحى من وجوه الأشخاص الذين يراهم في الشوارع والمقاهي. والأهم بالنسبة إليه أن لا يتخلف عن الواقع ولايسبقه بدرجة غير معقولة.ومن نافلة القول بأنَّ محفوظ كان غزيراً في الكتابة ومطافه لم ينته بنشر الروايات النهرية بل نحتَ من اللغة صوراً مشحونة بالإيحاءات في تأليف القصص القصيرة لعلَّ مايتبادرُ إلى الذهن المجموعة القصصية “دنيا الله” المضمرة بالأفكار الإشكالية عن المصير والمزاج الإنساني. وعن الاختلاف بين مُتطلبات كتابة الرواية وتأليف القصة القصيرة يقولُ نجيب محفوظ بأنَّ العمل الروائي يحتاج إلى بحث مسبق وقبل أن يشرع بالتخطيط الفعلي لثلاثيته كرسَ ملفاً لكل شخصية ولولا هذا التدبير الاستباقي لكانت نتيجة التبعثر والتهلهل في البناء والحلقات السردية.أما القصة فهي تنبثق من القلب مباشرةً،يخبرك المؤلف عن الأطوار التي يتخذها العملُ الإبداعي فنسخته الأولى عفوية غير متمهلة وما إن تبدأُ المرحلة الثانية للنص حتى يتغيرَ المناخ بأكمله غير أنَّ الفكرة لاتتبدلُ هي الشراع الذي تنتظمُ به حركة الرواية ولايغامر محفوظ بالكتابة قبل اختمار الفكرة وتحديد الشخصيات التي يقوم عليها التسلسل الإيقاعي. يؤكدُ مؤلف “حرافيش” بأنَّه يستقي مواد أعماله من المنجم الذي يعودُ إليه جميع الروائيين في العالم ويقصدُ بذلك الحياة والذات.يتقاطع كلامُ محفوظ مع رأي همنغواي حول الإبانة عن بصمة مُختلفة وجديدة في الكتابة لأنَّ القارىء لايقبلُ على روايةٍ أو قصيدة سبقَ وأنْ جربَ مزاجها عند غيرك كذلك يقولُ صاحب ” يملكون ولايملكون” بأنَّ لا فائدة من كتابة أيَّ شيء بات مُستهلكاً وما يجبُ أن يفكرَ فيه الأصوات الأدبية المُعاصرة هو التغلب على الأعمال التي نشرها أسلافهم. ينصح ماريو بارغاس يوسا الروائي الناشيء بأنْ لايقلد الكُتاب الذين يحظون باحترامه إلا في انكبابهم وتفانيهم وانضباطهم. يقدرُ نجيب محفوظ الحراك الروائي الجديد ومحاولات التجريب التي بدأت من فرنسا لاشكَ إن هذا المسعى قد أفاد الفن الروائي لكن كل ذلك لايعوض سحر الحكاية التي لاتقاوم، فالرواية كما يُعَرِفها محفوظ هي حكاية تُقدم ويتسعُ إطارُها لتناول الملمح الفكري والاجتماعي والنفسي.ما لايجدُ له الإنسان بديلاً هو التعبير عن التجارب الذاتية لايستبعدُ نجيب محفوظ أن تتغير الوسيلة ويشاهدُ الناس التلفاز بدلاً من قراءة الكتب غير أنَّ الثابت في هذه المُعادلة أنَّ شغف الكائن البشري بمعاينة تجاربه وتذكرها من خلال الأدب متأصل في تكوينه.يفصحُ محفوظ عن عرف الكتابة الروائية ما إن ينضجُ الموضوع في ذهنه حتى يلاحقه بالتفكير المستمر سواء عندما يكون في الوظيفة أو أثناء المشي أو يتناول الطعام، إذ يقتنصُ التفصيلة التي تلوحُ له. وفي الواقع أنَّ الجسم الروائي عبارةُ عن مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمعُ حول نواة الفكرة. وقد يختلف عرف الكتابة تبعاً للخلفية التي تنطلق منها. إذا اختار المؤلف مسلكاً واقعياً بالطبع لاتفوته شاردة ولا واردة من المشاهد إلا ويسجلها فيما الكتابة الذهنية لاتتطلبُ هذا التعمق في الواقع، لأنَّ متكئها ليس إلا التفكير والتأمل.يبدي محفوظ استغرابه من الكتاب الذين يعاقرون الخمر والحشيش متوهمين بأنَّ ذلك طريق ملكي للإبداع. فهو يدخنُ السيجارة محبذاً وجود أنغام موسيقية عندما ينهمكُ في الكتابة.وعن علاقة مزاج الكاتب بالفصول والمواسم يعبرُ محفوظ عن ارتياحه بالخريف والشتاء بينما يغالبُ الصيف بالصبر.هنا يتوافق مزاجه مع همنغواي فالأخيرُ كان يمارسُ الاصطيادَ في الصيف لأنَّ الكتابة بالأجواء الحارة تضاعف لديه الشعور بالإرهاق.قد تجاهل النقدُ أعمال نجيب محفوظ لفترة غير قصيرة وقد عبرَ عن مراراته من هذا الموقف مؤكداً بأنَّه عمل لسنوات طويلة دون أن يسمعَ نقداً يُقدِرُ مايقوم به.بالمقابل كان للسينما دور بارز في انتشار روايات المُعلم.فبرأي محفوظ قدم الفن الرابع خدماتٍ جليلةً للأدب نشره لغير المُتعلمين.زيادةً على ماسبق فإنَّه يُقدر المخرجيبن الذين كان لهم فضل في وصول رواياته إلى جمهور أوسع ذاكراً بهذا الصدد كلاً من “صلاح أبو سيف، حسام الدين مصطفى، كمال الشيخ، حسن الإمام.
قراءات تكوينية
تتابعُ وحدات الكتاب ما صرح به محفوظ عن قراءاته التكوينية فقد كانت نشأته الأدبية حصيلةً لقراءة عدد من الأُدباء العرب والأجانب.قرأ للعقاد وطه حسين والمازني وسلامة موسى فالأخير نشر له روايته الأولى “عبث الأقدار” وتعرف من العميد على نماذ مختلفة من فن القصة وحاول محاكاة ترجمته الذاتية بتأليف كتابه “الأعوام” وأشار محفوظ في أكثر من مُناسبة بأنَّه قد استوحى شكل ثلاثيته الشهيرة من رواية “شجرة البؤس” وبيئتها المنفتحة على أصوات الأجيال وما يحلُ بحياة أسرة التاجرين عبدالرحمن وعلي من التحولات.وتعلَّم من مؤلف العبقريات الإيمان بقيم معينة على رأسها قيمة الفن الأدبي كفنٍ مرموق لا كوسيلة للتكسب الاحتفائي كذلك تعلم منه قيمة الحرية الفكرية في الديموقراطية وأفاده الأستاذ سلامة موسى في معرفة مبادىء العلم والتسامح والاشتراكية.بموازاة ماقرأه للكتاب العرب بدأ محفوظ رحلاته في الأدب الأجنبي مُصاحباً تولستوي وشكسبير وإبسن وشو. لعلَّ مايجدرُ بالاهتمام ليس مؤلفات محفوظ الإبداعية فحسب بل منطقه في فهم التيارات الأدبية وهو يقول بأنَّه بدأ بالكتابة الروائية متزامناً مع إعلان فرجينيا وولف لنهاية الأسلوب الواقعي لكن ذلك لم يصرفه عن مضي قدما في نشر رواياته الواقعية بدءا من “القاهرة الجديدة” مروراً ب”زقاق المدق” وصولاً إلى رائعته ” بداية ونهاية”مايعني أنَّه لم يرد الانسياق مع الموجة بل ركز على طريقة للنضوج. يناقشُ الفائزُ بنوبل موضوع الشهرة موضحاً رأيه بصيغةٍ يغلبُ عليها النفس التحليلي بعيداً عن اللهجة الرثائية وهو يذكرنا بأنَّ العلم يقع فوق الأنشطة الإنسانية مع ذلك لايصحُ الاستغراب من أن يكون المونولوجست أكثر شهرة من العالم لأنَّ شهرة الأخير محدودة بأصحاب الاختصاص وبالتالي يصعبُ على العامة مشاركته في معرفة قيمة فتوحاته.ولا يعابُ الجمهور في المحبة للفريق الذي تناسب أعماله مذاقهم وأهواءهم.
يؤكدُ محفوظ بأنَّه لايؤرقه التفكير في النجاح أثناء الكتابة ليس لأنَّه غير مهتم به بل لأنَّ التفكير فيه قد يفسد العمل كله.إذا كانت لجنة النشر للجامعيين هي المنصة الأولى لطباعة روايات محفوظ لكن ما يدينُ له بالانتشار هو سلسلة الكتاب الذهبي التي أصدرتها روز اليوسف.لاشك أنَّ الأعمال الأدبية تتحرك ضمن الأفكار التي يؤمن بها الكاتب وماترسب في وجدان محفوظ وتمثل في مؤلفاته ثلاث قيم يبلى الزمنُ ولاتبلى مفاعيلها “العدالة، الحرية، العلم”كما يرتادُ إلى مصادره الأساسية “المقهى، الوظيفة، الحارة” مُستلهما من عوالم هذه البيئات ثيمات رواياته. يفردُ عمرو فتحي القسم الثاني من الكتاب لآ راء نجيب محفوظ حول جينات أعماله معلقاً على ما أثارته بعض العناوين مثل “ثرثرة فوق النيل” و “اللص والكلاب” و “ميرامار” من اللغط والجدل في الأوساط السياسية.ماتخلص إليه وأنت تتابعُ مقتطفات من حوارات محفوظ عن الكتابة والإبداع أنَّه يشبه العداء الذي لاتشغلهُ هتافات الجمهور من المدرجات بقدر مايهمه الوصول إلى الشريط الأخير ومن ثمَّ يلتفت إلى الحضور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى